لم أشاهد عملا في السينما مأخوذا عن نص أدبي بالقيمة نفسها التي كتب فيها
إلا في ما ندر، وأذكر هنا على سبيل المثال رواية بيت الأرواح لإيزابيل
الليندي التي حولت إلى السينما واقتربت كثيرا من روح النص وأعطته ميريل
ستريب دفقا جديدا بأدائها الرائع عندما جسدت الدور الرئيس فيه.
لكن رائعة أوسكار وايلد صورة دوريان جراي لم يسعفها الحظ أن تكون بمستوى
الرواية عندما تحولت إلى السينما.. لقد خلد وايلد في هذا العمل المهم جمال
الروح وجمال الجسد من خلال أفكاره التي تبناها فعلا في الحياة والتي سببت
له الكثير من الجدل والاتهامات، لكن الفيلم الذي عرض مؤخرا على شاشة
التلفاز وقف على ضفاف الرواية ولم يدخل أعماقها إلا بجمل قليلة أخذت من
النص الأصلي.. وقبل الحديث عن الفيلم يمكن التوقف سريعا عند الرواية التي
ترجمها للعربية لويس عوض وصدرت عن دار المعارف بمصر سنة 1969.
صورة دوريان جراي رواية خلاقة تمزج بين الجمال الإنساني والقبح المتواري
وراءه، بين الروح والجسد في صراعهما من أجل الخلود، بين الفضيلة والرذيلة،
بين عشق الذات المرضي وعشق الحياة بكل أبعادها الإنسانية الجميلة.
يتعرف هنري وتون الذي تغير اسمه في الفيلم إلى هاري، بالشاب دوريان جراي
ويفتتن بجماله، ثم يبدأ بتلقينه دروسا بكل ما يتعلق بالجمال والحواس وهو
الذي يؤمن بأن الظواهر هي كل شيء في الحياة، إذ إن لغز الحياة هو ما نراه
وليس ما لا نراه ، ويرى أن الجمال هو الأساس مع أنه زائل ولذلك يدعو إلى
عبادة الجمال، وقد حذر هنري، الشاب الجميل من غدر الزمان الذي سيأخذ جماله
بينما تبقى صورته التي رسمها صديقهما المشترك بازيل، جميلة وخالدة على مر
الزمان، فحزن دوريان جراي وتمنى أن تشيخ الصورة بدلا عنه ويبقى هو محتفظا
بشبابه، وكان له ما أراد..
لكن الذي حدث أن الصورة كانت تتغير نحو السوء كلما أتى فعلا منكرا، حتى
تخربت روحه وتشوهت بفعل أعماله السيئة، فأصبحت الصورة بشعة للغاية أدت في
النهاية، بعد كثير من الأحداث والتفاصيل، إلى أن يمزقها دوريان ويقتل صديقه
الرسام ثم ينتحر، بعد أن أدرك أنه تحول من الطهارة إلى البشاعة، وأوغل في
الملذات الحسية والفواحش.
هذا باختصار ملخص الرواية التي تعد من الأعمال الخالدة في الأدب العالمي..
فبماذا جاء الفيلم؟.
كان اللورد هنري وتون قد درس علم تشريح الحشرات، ومن ثم رأى أن هذا العلم
قادر على تشريح الآخرين من بني البشر، فطبق نظرياته على الشاب دوريان
جراي.. ولم تذكر دراسته في الفيلم، بل إن المخرج تجاهل هذا الجانب من النص،
وأطلق اسم هاري على الممثل الذي قام بتجسيد هذه الشخصية التي لا تتطابق
مواصفاتها الشكلية مع الشخصية التي رسمها وايلد.
كما تحول الرسام بازيل -وهو الشخصية المهمة التي تضيف توازنا خلاقا للعمل
وتحركه- إلى امرأة رسامة سيطلب هاري منها الزواج قبل نهاية الفيلم، وهو
الذي لم يؤمن بمؤسسة الزواج وبالنساء أصلا، وله آراء كثيرة في ذلك، بل إن
آراءه تعد مفصلا مهما من المفاصل التي تقوم عليها الرواية. هذا التغيير في
أساسيات العمل السينمائي لم يخدم العمل الأصلي ولم يضف إليه، بل أسقط
الفيلم في الفجاجة.
ولم يكن الممثل الذي جسد شخصية دوريان يحظى بالجمال الخارق الذي رسمه له
وايلد في الرواية، كما أن العبارات المقتطعة من النص الأصلي لم تنسجم مع
شكل الممثل وأدائه.
وقسم المخرج فيلمه إلى فصول بعناوين مثيرة، ربما ليمنح عمله بعض التشويق
ولكي لا يسقط في الرتابة، لكن ذلك لم يضف شيئا أيضا.
لقد أسقط الفيلم الكثير من التفاصيل، خصوصا في ما يتعلق بعلاقة دوريان
العاطفية بفنانة المسرح سيبل فين التي عشقته إلى الحد الذي بدت فيه أدوارها
الرومانسية ضحلة إزاء ما تشعر به من حب تجاه حبيبها، وفضلت أن تخسر مجد
الفن مقابل الزواج من أميرها الساحر، لكنه خذلها بعد أن فسدت روحه.
كما تجاهل الفيلم دور أم سيبل فين التي كانت ترى أن الفن أهم من المال،
واكتفى بلقطة سريعة وهي على فراش المرض لم تقل فيها سوى جملة واحدة.
رواية صورة دوريان جراي تمضي من خلال شخصياتها القليلة إلى تلك الدهاليز
السرية الغامضة والمحيرة في النفس البشرية بكل نوازعها الخيرة والشريرة،
وتترك للقارئ الكثير من الأسئلة في فلسفة الحياة والجمال والروح.. لكن
الفيلم لم يصل إلى روح النص ولم يترك عند المشاهد الذي سبق أن قرأ الرواية
إلا الخيبة.
الرأي الأردنية في
07/08/2009 |