لن تثير وقفة الدلع
الجنسي، التي بان عليها المهرّج البريطاني ساشا بارون كوهين المطبوعة
والمنتشرة في
إعلانات ضخمة في شوارع المدن الأوروبية وعلى أغلفة مجّلاتها
وجدران حافلاتها
الشعبية، حفائظ التقليديين الذين يخشون سوء فهم المحارم، إذ إن إعطاءه
مؤخِّرَته
لمشاهده على الملصقات الملوّنة، التي تصوّر البطل الشاب مرتدياً زيّاً
ريفياً
نمساوياً أصفر اللون وواقفاً بغنج وسط مروج أوروبية، يسعى إلى
الذمّ الأخلاقي
المغلّف بتوريات السياسة والتهكّم البورنوغرافي. وهي، في الأحوال كلّها،
أوصلت
غمزاتها الإباحية إلى الجميع، كباراً وصغاراً. صاغ كوهين، سليل عائلة
ليتوانية
يهودية استقرّت في بريطانيا منذ الحرب العالمية الثانية، فيلمه
الذي حمل اسم بطله
«برونو»
كخطاب شخصي عن محاور عدّة، أوّلها لوطية البطل (مثليّته في التعبير
الأدبي)، التي اتّخذها وسيلة اختراق لأوساط تجارية نافذة،
صابّاً عليها قفشاته
المريرة؛ وثانيها سياسته المُغلّفة طوال الفيلم بالخسارات المتبادلة بينه
كساع إلى
الشهرة وبين الآخرين الذين يمتلكون مالاً كثيراً وصيتاً ونفوذاً، لكنهم
طرائد سهلة
لتهكّمه ومفارقاته التي يكتشفونها بعد فوات الأوان، وبعد أن وثّقها
سينمائياً ليكشف
عوراتهم السياسية والأخلاقية في المقام الأول.
شتم الجميع
«برونو»
كائن
سينمائي يرث أسوأ ما لدى سلفه «بورات»، من ناحية الغلّ بشتم الجميع، ليس
بالضرورة
من الباب العنصري، لكن عبر خانة التعيير الإيديولوجي. فالأخير
صدّع صورة دولة
عالمثالثية (كازاخستان)، التي خرجت للتو من الرداء السوفياتي لتكتشف فقر
اقتصادها
الريفي و«همجية» أعراف سكّانها بحسب قفشات كوهين، الذي سعى لينتقص أطراف
الغرب
المرفّه، الذين تنطلي عليهم خدعه بالسهولة نفسها التي يكشفون
عبرها عن سذاجاتهم
وأكاذيبهم وتدليساتهم. يُعرّف برونو عن نفسه بنفسه، بلكنة ألمانية قوية،
وبسعيه إلى
أن يُكرَّس كـ «أشهر مذيع للموضة في جميع المناطق الناطقة بالألمانية، ما
عدا
ألمانيا» (!)، وبعزم على أن تفوق شهرته النمساوي الآخر: أودولف
هتلر. من هذا
الافتتاح، تصبح يهودية المهرّج كوهين علّة إنتاج الدقائق الاثنتين
والثمانين، التي
يُكرِّرها مراراً. فأمام صُوَر نجوم هوليوود، الذين يُفترَض بهم أن يكونوا
نماذج
لخطوات سعيه إلى الشهرة الأميركية، يُلقّب المغنّي الشعبي ستيف
ويندر بصاحب «كل شيء
عن أمي» المخرج الإسباني بيدرو (ألمودوفار) المظفّر والممثّل الأسود ويل
سميث
بمستشار ألمانيا السابق ويل شميدت، ويُكرّم النجم براد بيت بلقب أدولف هتلر
ومواطنه
مل غيبسون بالفوهرر. الاستعارة المحصّنة، أي تلك التي لن
تُمكّن أحداً من محاسبة
منتج الفيلم المفعم بالشتائم والتجاوزات، هي ثيمة «برونو» وقوّته
الاستفزازية
وحصانته في آن.
من هنا، يبرّر مشاهد «برونو» للمهرّج مشيته الجنسية ببنطال قصير
مشدود على جسمه وسط القدس الغربية، مرتدياً موضة فاضحة «تقتبس»
الزيّ الرسمي لليهود
الهادسيين، قبل أن يهجموا للفتك به لما اعتبروه استهانة بهم. فمَنْ يجرؤ
على شتم
قيم ذات خصوصية دينية غير فرد منها، وهو يعرف جلياً أنه في منأى عن الاتهام
بمعاداة
السامية؟ مَنْ يملك إرادة الإهانة غير كوهين، عندما يجمع مديراً سابقاً
لجهاز
الاستخبارات الإسرائيلي «موساد» ويُدعى يوسي ألفار، بالناطق
الرسمي للحكومة
الفلسطينية غسان الخطيب، عند طاولة واحدة ليلعب على ذقنيهما بتورية «حماس»
والحمص،
وعندما يجمعان على أن الأخير نبتة من البقوليات تجد إقبالاً لدى
الفلسطينيين
واليهود، وأن لا علاقة لها بمنظمة سياسية، يصرخ برونو في
وجهيهما المصدومَين للقضية
الباهتة التي طُرحت عليهما: «إذاً، أنتما تتّفقان على هذا الأمر. إننا
نحقّق
تقدّماً».
تسخيف
يوظّف كوهين ومخرج الفيلم لاري تشارلز، في هذا المقطع
التشهيري، تسخيفهما المقنّن لقضية حصدت ولا تزال تحصد ملايين الأرواح،
ليُمهّدا
مشاهدهما لطامتين كبريين أخريين: الأولى، حين يُجلس محافظ القدس عدنان
الحسيني مع
بروفيسور الجامعة العبرية آفرايم سيلا، ويواجه الأول بسؤال
تهريجي: «لماذا لا
تعيدون أهرامات الجيزة إلى الإسرائيليين؟». وما ان يُجيب المسؤول الفلسطيني
«إنها
في مصر، ولا علاقة لنا بها كفلسطينين»، حتى يشرع الكوميدي الشاب بأغنية
تدعو إلى
التضامن ويُنهيها وهما يصفّقان كأبلهين. والثانية خصّ بها
العرب، وتتمثّل بعبوره
الحدود إلى قلب بيروت، وتحديداً إلى مخيم عين الحلوة، إثر نصيحة البروفيسور
اليهودي، وعمادها أن خطفه على يديّ إرهابي سيشهره في العالم، ليقابل أحد
أقطاب
النضال الفلسطيني أيمن أبو عيطة، الذي يصفه الفيلم بأنه
«إرهابي من خلايا كتائب
شهداء الأقصى»، زاعماً أنه مُقدِّم برنامج سياسي نمساوي، وطالباً منه إزالة
شاربيه
وإطلاق النار عليه، قبل أن يُناشده اختطافه كي يحظى بالشهرة. هذه الأخيرة
وصلته كما
يبدو اليوم، لتعزّز انتشار الفيلم الذي حصد مليونين و800 ألف
دولار أميركي، مع
الخبر الذي تداولته وسائل الإعلام البريطانية بكثير من الاعتزاز، والخاص
برسالة
التهديد المزعومة التي وجّهتها الكتائب، وإشارتها إلى عزمها على تصفية
كوهين
شخصياً، ردّاً على سفاهاته السينمائية. وذكرت الصحف أن شرطة
سكوتلنديارد عزّزت
حمايته. لكن، ما لم يُجب عليه هو: كيف تمّ توريط هذه الشخصيات المسؤولة،
التي يفترض
بها الحرص والتمعّن في كل خطواتها الإعلامية؟ والأكثر إثارة للحنق،
استسهالها
الوقوع في فخّ سينمائي منصوب علناً وبوضوح لا يخطئه حصيف.
جُلّ مقاطع «برونو»
مقابلات تلفزية صُوِّرت وفق نظام سينمائي
قائم على مبدئي الكرّ والفرّ، اعتمد على
فريق تصوير قاده أنتوني هاردووك وفولفانغ هيلد، وأُريد منه
إضفاء روحية توثيقية لن
نعرف منها سوى أن الحاضرين فيها تمّ النصب عليهم وإغوائهم بسهولة مثيرة
للضحك حقاً.
هناك المغنية والناشطة في مجال حقوق
العمالة الأجنبية باولا عبدول، وهي لا تتردّد
في الجلوس على ظهر عامل مكسيكي قبل أن تفرّ هاربة حين يأتي
كوهين وفريقه لها بعامل
آخر عار، غُطِّي جسده بقطع من وجبة سوتشي يابانية. ويقع الهرج الذي يغلّف
أجواء
استوديو ازدحم بمشاركين أميركيين أفريقيين يناكدهم برونو حول عرقيتهم، قبل
أن
يفاجئهم بابنه بالتبنّي، وهو أسود اللون، قائلاً لهم إنه بادله
بجهاز «آيبود»،
وأطلق عليه اسماً أفريقياً خاصاً هو «أو. جي.» (تورية عن لاعب
البيسبول الشهير أو.
جي. سمبسون، الذي اتُّهم بقتل زوجته). هناك سيناتور فرَّ حالما خلع برونو
ملابسه،
وبائعة هوى تسلخ جلد البطل الشاب لإرغامه على مضاجعتها. هناك أيضاً هجومه
على
مناهضي الغلمنة واللواطية من المخلصين لإحدى الكنائس، وأخيراً،
المشهد الختامي
المتخم بالتهكّم، عندما يواجه برونو عشيقه لوتز (الممثل السويسري غوستاف
هامرستين)
في مصارعة دموية وسط صراخ مهووسيها، قبل أن
ينقلبا فجأة إلى عشيقين يتطارحان الغرام
وسط دهشة الجميع.
المؤكد أن «برونو» لن يصل إلى الشاشات العربية (لن نغفل أن
القلة من مرتزقة سرقة الأفلام عبر «إنترنت» سيكونون من
الفالحين في الاطّلاع على
فقراته الحمقاء). وقد تكون هذه من الفضائل، لكن مناقشته تثير الكثير من
الغبار حول
تورّط مسؤولينا الذين يسمحون بعبور مهرّجين وحمقى يلهون من دون رادع مع
حقائق
بديهية حول عدو نصرّ على أنه أمامنا، بيد أنه يفلح في مدّ
أذنابه بيننا بيسر لا
يُحسَد عليه.
)لندن(
السفير اللبنانية في
06/08/2009 |