علشان سواد عنيها
لم يرد نجيب الريحاني أن يغادر خشبة المسرح ليظل تصفيق الجمهور له
مستمراً، فهو لم يعش مثل هذه اللحظة سابقاً، وكم تمناها، خصوصاً أن جزءاً
كبيراً من هذا النجاح يخصه وحده بشكل مباشر.
أسدل الستار وخرج نجيب منتشياً كمن ربح الجائزة الكبري للمرة الأولى
في حياته، وراح الجميع يهنئ بعضه البعض، فالنجاح مشترك حتى لو أجاد أحدهم،
إلا أن الخواجة «أستولو» كان له رأي خاص، فاقترب من نجيب الريحاني وهو لا
يزال يضحك من «برجيه» الشخصية التي قدمها الريحاني منذ دقائق، غير أنه لم
يكن يعرف أن الريحاني هو من قدم الشخصية بسبب الملابس والماكياج، بل إنه لا
يعرف أن الريحاني ممثل من الأساس، فقد كان يظن أنه المدير المالي للفرقة
لأنه هو من كان يتعامل معه، ومن تقاضى منه العشرة جنيهات، ميزانية
المسرحية، فاقترب وقال باللهجة العربية الممتزجة «بالجريجي»:
= يا سلام! يا سلام يا نجيب أفندي… دي خاجة تمام. خاجه خلوه مظبوط…
الراجل فري دي برجيه ده (ابن …….) حقيقي. مين خنزير عجوز قدم دور برجيه دي
مسيو نجيب؟
* ولزومه إيه مسيو نجيب بقى. ما تقول يا مسيو خنزير بالمرة.
= لا لا مسيو نجيب أنت راجل مخترم كتير… أنا أقصد ممثل خنزير (ابن …)
قدم دور برجيه.
* لا كفاية لحد كده. أصل لو قلت لك حاجة تاني هتزودها أكتر من كده…
الخنزير دا يا خواجة أستولو يبقى العبد لله
= إيه دي؟ مين عبد الله دي؟
* العبد لله يا خواجة. يعني محسوبك. يعني أنا اللي كنت عامل دور
برجيه.
= سوري مسيو نجيب أنا مس يعرف أن أنت الخنزير. أوه سوري… قصدي أنا مس
يعرف إن أنت ممثل عظيم قدم دور برجيه… سوري.. سوري مسيو نجيب.
عاشت فرقة «الكوميدي العربي» أياماً ظنوا معها أن الدنيا فتحت ذراعيها
لهم… وإلى الأبد، خصوصاً بعدما استطاعوا أن يردوا مبلغ العشرة جنيهات إلى
«أستولو» وتقاضى كل منهم مبلغاً وقدره جنيه مصري، وهو ثروة لا يستهان بها،
بعدما دفعوا إيجار «تياترو برنتانيا» لدرجة أن خيالهم صور لهم أنهم سيقضون
على كل الفرق المسرحية في المحروسة، تحديداً فرقة «أبيض وحجازي». وراح نجيب
الريحاني يتمنى لو أن جورج أبيض الذي كتب وثيقة فشله ووقع عليها، مؤكداً
أنه ليس ممثلاً ولن يكون، ولو كومبارس، تمنى لو أنه حضر ليلة من ليالي عرض
رواية «خللي بالك من إميلي» ويرى التصفيق الذي يحصده من الجمهور، ويرى تحية
النهاية، وهم يقفون من جلستهم ويصفقون له ويهتفون:
برجيه… برجيه… برجيه!
عادت مشاكل واضطرابات الحرب العالمية الأولى تلقي بظلالها على الأحوال
الاقتصادية للبلد مجدداً، فساد التقشف كل شيء، وهو ما أنعكس على الفرق
الكبرى عموماً، والفرق الصغرى خصوصاً، فتراجع إيراد «جوق الكوميدي العربي»،
وبدت حالة التقشف تتضح آثارها على الفرقة، بعدما هبطت أسهم كل منهم هبوطاً
مخيفاً، حتى إنه أصبح لا يزيد في الليلة على العشرة جنيهات، كل الجزء
الأكبر منها يدفع في إيجار التياترو والباقي يقسم على أسهم ما بين أستولو
والممثلين. فكان يخص السهم «ثلاث تعريفات»، وإذا انتعشت الحالة في إحدى
الليالي، ارتفع نصيب السهم إلى 18 مليماً.
وترشيداً للإنفاق، قررت الفرقة الاكتفاء بالعمل ثلاث ليال فقط في
الأسبوع، وثلاثة أيام تجرى فيها البروفات، ويوم إجازة. ولما كان سكن نجيب
الريحاني هو أكثرهم ابتعاداً عن المسرح، فقد استأذن عزيز عيد أن يعفيه من
البروفات، فهو يتقاضى 12 قرشاً في الأسبوع، وأجرة مترو مصر الجديدة عشرة
مليمات في الذهاب وعشرة مليمات في الإياب، أي أنه سيحتاج إلى 14 قرشاً
للمترو فقط كل أسبوع. فتقرر استثناء نجيب من البروفات بسبب سكنه، وإعفاءه
من يومين فقط، على أن يحضر بروفة اليوم الثالث قبل العرض، ولا مانع من
الاقتراض… سواء من الخواجة أستولو نفسه الذي أحب نجيب منذ الليلة الأولى له
على خشبة المسرح، وأحياناً من «فلفل الغرسون» كما يفعل باقي أفراد الفرقة.
غير أن بعضهم لم يقو على الاستمرار وسط هذا القحط، مثل ستيفان روستي، الذي
ترك الفرقة للبحث عن مكان آخر يضمن له حياة كريمة، فهو لم يعتد مثل هذا
التقشف.
خدعة المنصورة
حل محل ستيفان روستي في الفرقة أحمد حافظ، شقيق الفنان عبد المجيد
شكري الممثل في «فرقة رمسيس» لدي الفنان يوسف وهبي. وبينما جلس الجميع بعد
إحدى البروفات يتشاورون في أمر ما وصلت إليه الفرقة، قفزت فكرة في رأس أحمد
حافظ أعجب بها الجميع، وهي أن يسافر إلى المنصورة لترتيب حفلات تحييها
الفرقة هناك، فهو يعرف متعهد حفلات عن طريق شقيقه عبد المجيد، ويستطيع أن
يدبر الأمر معه.
وافق الجميع على اقتراح أحمد حافظ، ومُنح 50 قرشاً جُمعت من أعضاء
الفرقة، لزوم السفر والإقامة في المنصورة لمدة يومين، يدبر فيهما تعاقداته
مع متعهد الحفلات.
يومان ووصل تلغراف من المنصورة إلى عزيز عيد:
حضرة المحترم/ عزيز أفندي عيد
يبدو أن الدنيا قهقهت لنا ولم تبتسم فقط، فقد انهالت الطلبات للحصول
على تذاكر للفرقة، وأؤكد لك إن الإيراد اليومي هنا لن يقل عن ستين جنيها في
الليلة… أرجو التعجل بالوصول… في انتظاركم.
أحمد حافظ
ما إن قرأ عزيز عيد الخطاب على أعضاء الفرقة، حتى صرخ الجميع من الفرح
وراحوا يهنئون بعضهم البعض ويتبادلون القبلات والدمع في أعينهم. وجهَّز كل
منهم حقيبته فوراً، واتجه الجميع إلى «محطة مصر» في صباح اليوم التالي
ليستقلوا القطار المتجه إلى المنصورة والذي يغادر العاصمة قبيل الظهر. وكان
في مقابل ذلك أن حرموا جميعاً من الطعام الليلة السابقة واليوم الحالي،
لتوفير ثمن تذاكر القطار، وهذا لا يهم، ففي المنصورة ستقام الولائم
والعزائم بعد إيراد ليلة واحدة فقط.
وصلت الفرقة إلى المنصورة، استقبلهم أحمد حافظ الذي كان قد حجز لهم
غرفاً في فندق قريب من المحطة. ما إن وضعوا حقائبهم في الفندق، حتى توجهوا
إلى المسرح الذي سيقدمون عليه عروضهم، للقيام ببروفة قبل موعد العرض، وهو
أحد أهم العروض بالنسبة إليهم لأنه سيكون سبباً في ملء بطونهم بما لذ وطاب
عقب انتهائه.
لم تمهلهم المنصورة يوماً لتفاجئهم، بل كانت المفاجأة منذ الليلة
الأولى. تبخرت الأماني والآمال، وضاعت الوعود الحلوة التي زخر بها تلغراف
مبعوث الفرقة إلى الوجه البحري، ما جعلهم يتحسرون على إيرادات ليالي
القاهرة، فقد بلغ إيراد الليلة الأولى لهم في المنصورة أربعة جنيهات مصرية
لا غير، في حين اختفى أحمد حافظ من المسرح ومن الفرقة ولم يعثر له على أثر.
كان نصيب كل فرد من أفرد الفرقة لا يزيد على عشرة مليمات، بينما زاد
نصيب نجيب الريحاني باعتباره ممثلاً مميزاً، فحصل على 13 مليماً، وضاعت
أحلام العزائم والولائم والأماني بأن يتعرف كل منهم، منذ زمن، إلى طعم
اللحم الذي كادوا ينسونه. ولم يجد نجيب أمامه سوى بائع «السميط» ليشتري
«كعكة» و{قرطاس ملح»، ليسد جوع يومين كاملين!
بينما كان الريحاني يستمتع بالتهام «الكعكة والملح» على كورنيش
المنصورة في طريقه إلى الفندق، إذا به يلتقي أحمد حافظ:
* إيه النور ده… قصدي إيه الضلمة والليلة اللي زي وشك دي… جناب
«الإمبرازريو» حتة واحدة؟
= أهلا نجيب إزيك.
* الله لا يسلمك… على الأقل ستين جنيه في الليلة مش كده؟ الله يكسفك
دا أحنا محصلناش ستة جنيه في أول ليلة!
= أعمل إيه؟ والله كنت حاسبها كويس والناس كانت مستنية، وصاحب
التياترو أكد لي أن الناس عاوزة تشوف أي فرقة تيجي من مصر. بس معرفش إيه
اللى حصل
* شفت العمى بعنيك… نهايته روح… الله لا يكسبك.
= اسمع بس. أنت رايح فين على كده؟
* هروح فين بسلامتي… الأوبرا؟ رايح اللوكاندة أنام يمكن بطني تهدا
شوية من الجوع.
= طب إيه رأيك يا عم في اللي يسهرك سهرة سلطاني.
* هو الأبعد معندوش دم… دم لما يلهفك… دا أنا ممعاييش تمن حتة جبنة
رومي أغمس بيها السميطة وبغمس بملح.
= أنت مش هتدفع حاجة. أنت معزوم يا باشا.
* معزوم!! ومين اللي هيدفع إن شاء الله؟
= العبد الفقير اللي قدامك ده.
* طب ولما أنت عبد فقير هتعزمني منين.
= جيب السبع مايخلاش… الفلوس كتير والحمد لله.
* واد يا أحمد أحنا في غربة… الحكاية مش ناقصة بهدلة.
= عيب يا أبو الأنجاب.
لا بديل عن الانتقام، ليس من أحمد حافظ إنما من الجوع. أكل وشرب، كأنه
سيتم منع الأكل والشرب بعد هذه الليلة، وموسيقى ورقص وفرفشة وانبساط، ليلة
«بوهيمية» بكل معنى الكلمة، حتى لاح ضوء النهار، وجاء وقت الحساب:
- الحساب يا أفندية؟
* أيوه كلم يا أحمد البيه الغرسون.
= حسابك كام؟
- كله… يبقى الحساب تلاتة جنيه وتمانية وتسعين قرشاً وستة مليمات.
= إيه؟! بتقول كام؟
- حاضر. أعيدلك تاني… تلاتة جنيه وتمانية وتسعين قرشاً وستة مليمات.
= أيوه بس!
* بس إيه… أنت معاك كام.
= أنا كل اللي معايا تمانين قرش أول عن آخر.
* يا نهار كوبية. تمانين صاغ والمطلوب أربعة جنيه. بالبقشيش.
= مش مهم البقشيش.
* يعني فرقت معاك على تلاتة تعريفة يا سي أحمد. مش مهم البقشيش. ادفع
المطلوب بس.
= منين؟! بقولك كل اللي معايا تمانين قرش بس.
* منك لله… هو أنا محرمتش من اللي عملته بالفرقة. هي سككك كلها كده؟
- إيه يا أفندية… هستنى كتير كده؟
= أيوه يا سيدي الصبر طيب.
- طيب!
* طب مفيش حد ممكن تروح تستلف منه؟
= لا مفيش… مين هيسلفني أربعة جنيه؟
* طب والعمل يا سي أحمد؟
- العمل عندي أنا يا أفندية… قدامي على الكراكون.
* كراكون إيه يا سيدنا. أحنا ناس محترمين… أرتيست قد الدنيا.
- لا ماهو باين عليكم… قدامي متضيعوش وقتي.
لم تفد التوسلات والاسترحامات كافة، التي قام بها نجيب وأحمد حافظ،
حتى جاء خلاصهما على يد مجهول، رق لحالهما عندما عرف أنهما أرتيست من
القاهرة جاءا مع فرقة «الكوميدي العربي» قدم نفسه لهما بأنه «أنور بك
الكشكي» عمدة «كفر البد ماص»، وأنه رجل يحب الفن والفنانين، ولن يؤثر معه
مبلغ أربعة جنيهات، فالخير وفير، وقد باع أخيراً محصول القطن، وليس لديه ما
يمنع من استضافته وباقي أفراد الفرقة لديه في «كفر أبو طشت».
اعتذر نجيب للرجل وشكره، بل حاول أن يكتب له إيصالاً على سبيل
الأمانة، كي يرسل إليه المبلغ الذي دفعه لهما في حواله بريدية، فرفض الرجل
رفضاً قاطعاً معتبراً ذلك إهانة بالغة.
في يوم الأحد الموافق 18 ديسمبر سنة 1914، خرج نجيب الريحاني بعد
انتهاء البروفة اليومية، ليستمتع بدفء شمس هذا النهار أمام الباب الخارجي
لمسرح «الشانزلزيه» في شارع الفجالة، وجلس إلى جواره حسن فايق وأمين عطا
الله، وإذا بالترام الذي يمر من شارع الفجالة يتوقف في محطته قبالة المسرح
ليهبط من الترام شخص يحمل بين يديه «بقجة».
ـ السلام عليكم يا جماعة.
* عليكم السلام يا أخينا. إيه خير إن شاء الله؟ أنت تايه؟
ـ أنا عبد اللطيف المصري، ممثل كبير.
* كبير!! يعني عندك كام سنة كده؟
ـ في إبريل اللي جاي أتم تمانية وعشرين.
* لا عال قوي. تبقى ممثل كبير فعلا… أؤمر يا كبير؟
ـ أنا سمعت أن عندكم شغل وعاوز أشتغل وياكم في فرقة «الكوميدي
العربي».
* بس كده؟ أهلا وسهلا… أتفضل يا سيدنا خدلك كام سهم أنت راخر… عندك
الأستاذ عزيز عيد جوه بالمرسح.
لم تمر لحظات حتى حدثت حالة من الهرج والمرج عمت الشارع، وجاء بائع
الصحف المسائية يجري وهو يردد: إعلان الحماية البريطانية على مصر… إعلان
الحماية البريطانية على مصر.
جري نجيب والتقط منه إحدى الصحف ليقرأ:
«يعلن وزير خارجية جلالة ملك بريطانيا أنه نظراً إلى حالة الحرب
الناشئة عن عمل تركيا… فقد وضعت مصر تحت حماية صاحب الجلالة، وستصبح من
الآن فصاعداً تحت الحماية البريطانية.
* يا نهار زي الحبر… شوفت المصيبة دي يا حسن.
= فعلا مصيبة.. هي ناقصة؟!
* أحنا لازم نتحرك لازم نعمل حاجة.
= هتعمل إيه بس يا نجيب؟ تعالى هنا… رايح فين؟!
لم يهدأ نجيب الريحاني، وراح يشارك في واحدة من أكبر التظاهرات
القادمة من العباسية في طريقها إلى ميدان الإسماعيلية (التحرير) للتنديد
بفرض الحماية على مصر، قابلتها تظاهرات من مختلف أحياء مصر، خصوصاً بعدما
انتهزت الحكومة البريطانية فرصة وجود الخديو عباس حلمي في الدولة
العثمانية، وأصدرت مرسوماً ملكياً بعزله:
«يعلن وزير الخارجية لدى جلالة ملك بريطانيا العظمى أنه بالنظر لإقدام
سمو «عباس حلمي باشا» خديو مصر السابق، على الانضمام لأعداء جلالة الملك
رأت حكومة جلالته، خلعه من منصب الخديو، وتولى حسين كامل الحكم، ومنحه لقب
«السلطان» تعبيرا عن انفصال مصر نهائيا عن الدولة العثمانية، وتحول الحكم
فيها إلى «سلطنة» بعيدا عن نفوذ السلطان العثماني».
استمرت التظاهرات تجوب أحياء القاهرة، ويخرج نجيب من تظاهرة لينضم إلى
أخرى وبصحبته علي يوسف، وفجأة داهمت الشرطة التظاهرات وألقي القبض على نجيب
الريحاني وعلي يوسف، وتم اصطحابهما إلى «الكراكون».
وقف نجيب حائراً، فهو «محبوس» لا محال، لذا اهتدى إلى حيلة، ربما
أفلحت في إنقاذهما، فقرر القيام بها للخلاص من السجن.
(البقية في الحلقة المقبلة)
{ضربة المقرعة}
لم يكن حظ ليالي المنصورة الباقية من جهة الإيراد أفضل من الليلة
الأولى، فقد طالت أجواء الحرب وتدهورت الأحوال الاقتصادية في أرجاء مصر
كلها إلى درجة لا يتصورها أحد، ما أدى إلى سوء أحوال الفرقة المالية بشكل
مبالغ فيه، للدرجة التي لم يعد يحتمل فيها أي من أفرادها هذا التقشف الذي
يعيشون فيه، كذلك لم تعد مسكنات عزيز عيد وتهدئته لهم تشفع، ما كان سبباً
في وقوع خلاف حاد بين روز اليوسف وعزيز عيد، لأنها ضاقت ذرعاً بهذه الحياة
مع إصرار عزيز على الاستمرار، فراحت تعنفه وتتطاول عليه، على رغم أن عزيز
يعد أول من اكتشفها ومنحها فرصة حقيقية لتكون ممثلة بعدما ظلت في فرقة
إسكندر فرح لسنوات لم تضف لها جديداً. وهي لم تنكر ذلك، غير أنها فاض بها،
وأيدها في ذلك عدد من أفراد الفرقة، بل إن بعضهم أكد على انسحابه في حال
استمرارهم، فلم يجد عزيز عيد بداً من اقتراض بعض المال من صاحب «التياترو»
لشراء تذاكر العودة، على أن يرسله له من القاهرة… لتعود الفرقة بأسوأ مما
جاءت به إلى المنصورة بسبب سوء تقدير أحمد حافظ.
لم تكن هذه الأهوال المتلاحقة لتدخل اليأس إلى قلب نجيب الريحاني، أو
تجعله يفكر في هجرة التمثيل مجدداً والبحث عن وظيفة كما حدث سابقاً، بل
كانت تزيده إصراراً وتملؤه يقينًا باقتراب ذلك اليوم الذي يعرف فيه الناس
هذه المهنة ويعطوها حقها، ويغيرون آراءهم فيها، ويقدرون الفنان وما يضحي به
لأجل إسعادهم.
فقد عقد نجيب العزم على أن يجاهد ما استطاع، واضعًا نصب عينيه هدفًا
واحدًا، هو حمل الناس على الاعتراف بالتمثيل كمهنة تشرف أصحابها وتتشرف
بانتسابهم إليها.
عادت الفرقة إلى القاهرة، غير أنها لم تعد إلى «تياترو برنتانيا» لأن
صاحب التياترو كان يغالي في الإيجار، فعادوا إلى الجلوس على مقهى «متروبول»
لدى الخواجة «أستولو» في شارع عماد الدين، إلى حين العثور على مسرح بإيجار
أقل ترشيداً للنفقات، فقد كان إيجار «برنتانيا» يلتهم النصيب الأكبر من
الإيراد اليومي.
وقع اختيار فرقة «الكوميدي العربي» على «تياترو الشانزلزيه» في شارع
الفجالة، القريب من شارع عماد الدين، حيث اتفقوا مع إدارة التياترو على أن
تشغله الفرقة مقابل نصف الإيراد اليومي، وهو اتفاق لاقى استحسان الطرفين
(الفرقة وإدارة التياترو) وطمأن أعضاء الفرقة أنهم سيجدون ما يتقاضونه
يومياً. عندها بدأت البروفات فوراً لتقديم رواية جديد يعيدون بها تقديم
الفرقة إلى جمهور القاهرة، فكانت رواية «ضربة المقرعة» التي اقتبسها أمين
صدقي.
الجريدة الكويتية في
30/07/2012 |