حينما تذكر السينما السياسية، يذكر اسم المخرج اليوناني الفرنسي كوستا
غافراس، او قسطنطين غافراس، ذلك المخرج المبدع الذي اضفى مضامين ومعايير
جديدة للسينما السياسية عبر مجموعة من الاعمال والنتاجات، لاتزال حتى اليوم
تشكل اساسات مرحلة متقدمة من تاريخ السينما العالمية والسياسية على وجه
الخصوص. يكفي ان نشير الى نتاجات بمستوى «زد» وحالة حصار وغيرها من
النتاجات، التي رسخت حضوره كمبدع حقيقي ومؤسس للسينما السياسية، مستثمرا
المناخ الديمقراطي المتميز الذي انتقل اليه، من اليونان الى فرنسا حيث راح
يحلق بعيدا، في ظل السقف العالي من الحريات في التعبير في فرنسا.
وحينما نذكر كوستا غافراس نذكر ذلك الحصاد الفني المرموق من النتاجات
السينمائية وايضا الجوائز القيمة، والمكانة الفنية المرموقة التي يحتلها.
وتعالوا نرحل سويا، لرصد جوانب من مسيرة هذا المبدع الحقيقي، الذي
يمكن ان نصفه بأنه اهم صناع السينما السياسية والعالمية تعاطفا مع القضايا
العربية والفلسطينية على وجه الخصوص.
ولد كوستا في 12 فبراير 1933 في لوترا ارياس في اليونان، حيث امضت
اسرته، الحرب العالمية الثانية في قرية في مقاطعة بيليونس، بعدها انتقلوا
الى العاصمة اليونانية اثينا، بعد ان وضعت الحرب العالمية الثانية اوزارها.
والده كان عضوا في الجناح الايسر للمقاومة اليونانية (اي. اي. ام)، وقد
اتهم بالشيوعية. وهذا ما جعل كوستا يعاني كثيرا بل انه حرم من دخول
الجامعة، او حتى الهجرة، الى الولايات المتحدة الاميركية.
ولهذا فانه وبعد انتهائه من المرحلة الثانوية، استطاع الهجرة الى
فرنسا، حيث شرع اولا بدراسة القانون (المحاماة) في عام 1951، وكما اسلفنا،
فقد كانت انتماءات والده السياسية، اليسارية والشيوعية سبباً مباشراً في
عدم بقائه في اثينا، حيث رفضت اوراقه لانتساب والده الى الحزب الشيوعي،
وهكذا رفضت السفارة الاميركية اوراقة للسفر الى اميركا، ابان الحملة
المكارثية. في الخمسينيات من القرن الماضي.
وخلال دراسته القانون، ارتبط بعلاقات وثيقة مع اهل السينما، ما دفعه،
لان يترك دراسة القانون ويتجه الى دراسة السينما من خلال المدرسة الوطنية
للفيلم في فرنسا (ايدك) والتي تعتبر المدرسة السينمائية الأهم في اوروبا
لتدريس الفن السابع، والتي انجبت اهم صناع السينما في فرنسا اوروبا. وقد
اتيحت له الفرصة للتعلم على يد ايف الفريد، ثم عمل مساعدا للمخرج جان جينو
ورينيه كلير.
وبعد عدد من التجارب مع اهم المخرجين، قدم تجربته الاخراجية الاولى
عام 1965 في فيلم جريمة السيارة لينطلق بعدها الى فضاءات الحرفة، ويكفي ان
نشير الى انه تسلم قيادة السينماتيك الفرنسي (مكتبة السينما الفرنسية) في
الفترة من 1982 - 1987، كما عاد لقيادة هذا الصرح اعتبارا من عام 2007 حتى
الان.
ونعود الى ابداعاته ومسيرته بالذات مع الفيلم السياسي، ونتوقف عند
فيلم زد (z) حول قاضي تحقيقات جسد شخيصته النجم
الفرنسي جان لوي ترتنتيان، والذي كلف في التحقيق والكشف عن ملابسات جريمة
قتل احد السياسيين وجسد شخصية السياسي النجم الراحل ايف مونتان. ويواجه ذلك
القاضي ضغوطا رسمية وسياسية وقيادية من اجل اخفاء ملامح تلك الجريمة وتغطية
اثارها واسبابها ومبرراتها وحيثياتها واعتمد غافراس في هذا العمل على
ملابسات اغتيال السياسي اليوناني جريجوري لامبراليس في عام 1963 وقد فاز
الفيلم باوسكار افضل فيلم اجنبي.
لم يتردد كوستا غافراس في استحضار اليونان في العديد من اعماله، فبعد
«زد» استعاد اليونان في فيلم «نظام الجنرالات» وفي كل مرة المزيد من
المواجهات والتعرية السياسية الصريحة التي كانت تزعج اثينا يومها.
كما فاز كوستا بالتعاون مع الكاتب جورج سيمرين بجائزة «ادغار» (جائزة
كتاب السينما الاميركية) عن كتابتهما لسيناريو فيلم «اعتراف» 1970 والذي
يتناول عملية التحقيق مع سياسي تشيكي. وهو من الاعمال المثيرة للجدل عن
السلطات القمعية وممارساتها ابان فترات التحقيق. وفي الفيلم مشهديات قاسية
تقدم للمرة الاولى عن التعذيب في السجون والمعتقلات السياسية.
وفي عام 1973 يقدم تحفة اخرى، بعنوان تحت الحصار.
وتجري احداثه في اورغواى وتدور احداثه في مطلع السبعينات ابان حكم
العسكر هناك، عن حكاية دبلوماسي اميركي يتم اختطافه من قبل احدى المنظمات
الثورية، حيث يكشف الفيلم جوانب من ممارسات هيئة الاستخبارات الاميركية،
وتدخل اميركا في حياة ومصائر الكثير من شعوب العالم. وجسد شخصية السياسي
الاميركي (ايف مونتان).
وفي عام 1982 يقدم فيلم المفقود عن اختطاف صحفي اميركي في تشيلي ابان
حكم اوغيستون بيونشيه حيث يقوم والده ووالدته بالبحث عنه وسط ظروف سياسية
قمعية، وجسد دور الاب النجم القدير جاك ليمون ودور الام «سيسلي سباسك» وقد
فاز الفيلم بجائزة السعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي الدولي في ذات
العالم. كما فاز الفيلم بجائزة افضل سيناريو مقتبس.
السياسة هي الحاضرة في اعمال هذا المبدع، حيث يكتب سياسة ويعيش سياسة
ويتحدث سياسة ولا يقف امام الكاميرا الا ليقدم فكرا وفنا سياسيا بحتا.
وبعد «المفقود» يقدم تجربة في غاية الاهمية مع فيلم «هاناك» والذي
يعتبر اهم عمل سينمائي عن القضية الفلسطينية، الا ان الفيلم عانى من الظلم
في التوزيع ولم يجد طريقه الى صالات العرض، بل ان نجمة الفيلم حوربت ومنعت
من العمل، ونحن هنا نتحدث عن النجمة الاميركية الراحلة جيل كلايبورج
وشاركها البطولة الفلسطيني محمد بكري والفرنسي جان يان والبريطاني غابرييل
بيرن، عن حياة محامية يهودية تدافع عن شاب فلسطيني وقد تشرفت يوم عرض
الفيلم في المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي بلقاء كوستا
غافراس وزوجته المنتجة ميشيل غافراس وايضا نجوم الفيلم وفي مقدمتهم الصديق
النجم الفلسطيني محمد بكري.
حتى وهو يذهب الى شيء من مجاملة اليهود في فيلم «صندوق الموسيقى»
1989، عن حياة رجل نازي متورط بمعاداة السامية «اليهود» فانه يذهب الى
معايير سياسية عميقة ولهذا فاز الفيلم بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين
السينمائي الدولي.
وتتواصل اعماله وفي كل مرة السياسة هي الحاضر الاساسي وهذا ما كان في
فيلم «الخلق الصغير» و«رايمن» 2003، كما قدم افلام «كولونيلي» 2006، «عين
المشاهد» و«في الحياة الأخرى» واخيرا فيلم «جنة عدن في الغرب» 2009، وفي
هذا الأخير يتعرض لحياة المهاجرين غير الشرعيين من خلال حياة الشاب
اليوناني الياس الذي يعيش في باريس.
تجربة بعد اخرى السياسة هي الرهان لنتاجات واعمال هذا المخرج الذي ولد
من رحم السياسة اليونانية، وحمل عذابات والده وعذاب اسرته وعذاباته الى
العالم من خلال حضوره في السينما الفرنسية.
على الصعيد الشخصي كوستا غافراس مرتبط بزوجته ورفيقة دربه ميشيل
غافراس، لهما ابن وبنت، الابنة هي المخرجة جولي غافراس، وهكذا الامر
بالنسبة لابنه رومين غافراس وكلاهما يعمل في الاخراج السينمائي، كما تضم
الاسرة عدداً من الكوادر السينمائية من ابناء وبنات العمومة.
ونعود الى بيت القصيد، حيث كوستا غافراس البصمة الحقيقية للسينما
السياسية في العالم ونقطة الارتكاز تظل مع فيلم «زد».
النهار الكويتية في
17/08/2012 |