عندما نتحدث عن «داود عبد السيد» أو تكتب اسمه مسبوقا بكلمة أو بتعريف
«المخرج السينمائي» فأنت تظلمه!! لأنه ليس هكذا فقط. فهو يحمل بجدارة لقب
«صانع السينما» أو «فنان السينما» يصنع أفلامه بهدوء لا يهمه الكم على
الإطلاق لأن الكيف هو ما يعنيه ويشغله.. أفلامه قليلة للغاية قياسا بمشواره
السينمائي الذي يمتد لما يقرب من 40 عاماً وهو هنا شأنه في ذلك شأن كبار
صناع وفناني السينما في العالم الذين سطروا اسمهم وتاريخهم من خلال أفلام
قليلة كماً لكنها عظيمة قيمة وكيفاً.. أمثال الإيطالي العظيم «فيدريكوفلليني»
والاميركيين «ارسون ويلز» و«فرانسيس فوردكوبولا» والياباني الكبير «اكيروكبروساوا»
وفي السينما المصرية هناك من سلك نفس الاتجاه أمثال «يوسف شاهين «توفيق
صالح»، «رضوان الكاشف»، «شادي عبد السلام» صاحب معجزة الفيلم الواحد من
خلال تحفته السينمائية العالمية «المومياء».
داود عبد السيد مثله مثل هؤلاء الكبار في مصر والعالم الذين صنعوا
مجدهم السينمائي بأفلام قليلة العدد لكنها تحف سينمائية عظيمة القيمة لم
يقدم داود خلال مشواره السينمائي الطويل إلا عدداً قليلاً من الأفلام
التسجيلية والروائية القصيرة و8 أفلام روائية طويلة كل فيلم من هذه الأفلام
الثمانية دائما ما يكون على موعد مع جدل هائل يحرك المياه الراكدة في بحيرة
السينما المصرية وعلى موعد أيضا مع إشادة نقدية هائلة ونجاح فني وجماهيري
مدهش وجوائز عديدة تنتظره من مهرجانات سينمائية محلية ودولية لقد شيد هذا
الفنان السينمائي الكبير عالمه وتاريخه السينمائي على أسس وقواعد صلبة
تعتمد على حب وعشق واحترام جمهوره لذلك رغم أفلامه القليلة سيظل داود عبد
السيد من أهم عشاق السينما وصانعيها عبر تاريخها كله وسيظل «فيلسوف
السينما» الأول وبلا منازع الذي تحمل أفلامه قدراً عميقاً من الفلسفة
والفهم للحياة وللبشر.
ولد داود عبد السيد في 23 نوفمبر 1946 لأسرة تنتمي إلى الطبقة
الاجتماعية المتوسطة أو ما فوق المتوسط في حي شبرا بالقاهرة وعندما بلغ
العاشرة من عمره انتقل مع أسرته إلى حي مصر الجديدة الهادئ الراقي الذي
يمتلئ بدور العرض السينمائي مثل «غرناطة- الحرية- نورماندي- ميرلاند- بالاس-
كريستال» وفي دور العرض هذه كانت بدايته مع السينما من خلال التردد بكثافة
عليها ومشاهدة الأفلام السينمائية التي تعرضها والتي كان معظمها أفلاما
حديثة ذات قيمة بحكم أنها من دور العرض التي تعرضها والتي كان معظمها
أفلاماً حديثة ذات قيمة بحكم أنها من دور العرض الراقية أو «سينمات الدرجة
الأولى».. وفي فترة طفولته وحياته في مصر الجديدة انتظم في مراحل دراسته
العادية- الابتدائية ثم الإعدادية ثم الثانوية.. وخلال هذه المراحل
الدراسية بدأ وعيه يتفتح بشكل مرحلي فاكتشف وهو في سن 12 عاماً أن هناك
شيئاً جميلاً اسمه الخيال عندما قرأ بالمصادفة رواية أجنبية اسمها «جزر
المرجان» ومازال يحتفظ بهذه الرواية حتى اليوم، لأنها كانت البداية بالنسبة
له في رحلة القراءة والمعرفة وتفتح الوعي.. ومازال أيضا محتفظا بأول كارنيه
اشتراك في نادي «هليوبولس» الراقي بمصر الجديدة لأنه كان بداية تفتح وعيه
الاجتماعي من خلال تردده على هذا النادي.
أما بداية اهتمامه بالسينما فلم تكن تلك في وقت مبكر من طفولته وحياته
بل جاء مصادفة فقد كان داود يريد أن يكون صحافيا ولم يكن ضمن طموحاته أو
أحلامه أن يكون مخرجا سينمائيا ولكن جاءت علاقة الصداقة التي جمعته بابن
خالته الذي في نفس عمره والذي كان عاشقا للرسوم المتحركة ومحبا للسينما
لتغير تفكيره ومجرى حياته عندما اشترى ابن خالته- بعد أن تطورت هوايته-
كاميرا صغيرة وصور بها بعض المشاهد واجتذب معه داود في هذه الهواية وكان
داود وقتها ابن 16 عاماً من وقتها بدأ ينشغل بالسينما وبمشاهدة الأفلام
ويحللها بل وأخذ يتردد على «استديو جلال» الشهير القريب من مسكنه في مصر
الجديدة وتصادف أن قابل في الاستديو المخرج المعروف احمد ضياء الدين وتعرف
عليه وكان بالمصادفة والدا لأحد زملاء داود بالمدرسة منذ هذا الوقت ومع
مداومته على مشاهدة الأفلام وحضور التصوير باستديو جلال بدأ انبهاره
بالسينما يزداد وبدأ ينجذب إليها بشكل اكبر وعندما حصل هو وابن خالته على
شهادة الثانوية العامة قرر الاثنان دراسة السينما من خلال المعهد العالي
للسينما لكن ابن خالته يقرر بشكل مفاجئ أن يغير اتجاهه بينما يلتحق داود
بالمعهد ويبدأ في دراسته للسينما وتزامل معه في الدراسة ثلاثة من الزملاء
الذين أصبحوا من اقرب أصدقائه فيما بعد وهم «خيري بشارة وعلي بدر خان وحسام
علي» وفيما بعد أصبح خيري وعلي من أهم كبار مخرجي السينما في الأربعين عاما
الأخيرة بينما اتجه حسام علي إلى النقد السينمائي والأفلام التسجيلية
والروائية القصيرة وبعض الاتجاهات السينمائية الأخرى.
في عام 1968 كان هؤلاء الأصدقاء الأربعة « داود وخيري وعلي وحسام» من
الأربعة الأوائل الذين تخرجوا من المعهد العالي للسينما في قسم الإخراج.
وخلال نفس العام تم تعيين الأربعة في هيئة السينما واتجه داود للعمل كمساعد
للإخراج على مدى ثلاث سنوات وحتى عام 1971 وخلال هذه السنوات الثلاث عمل
مساعدا مع يوسف شاهين وكمال الشيخ وممدوح شكري في عدد قليل من أفلامهم لكنه
لم يحب كثيراً العمل كمساعد للإخراج ووجد أنها مهنة لا تناسبه ولا تناسب
أفكاره فهو يريد أن يعبر عن أفكاره ورؤاه هو وليس منفذا لأحد مراكز الأفلام
التسجيلية الذي كان قد تم تأسيسه والتحق داود بالعمل به كمخرج شاب ضمن عدد
من المخرجين الشباب الدارسين وعلى مدى ما يقرب من 14 عاما عمل داود في
إخراج الأفلام التسجيلية والروائية القصيرة سواء لحساب المركز القومي
للأفلام التسجيلية أو لحساب جهات إنتاجية أخرى وقد حقق داود نجاحا مذهلا
كمخرج أفلام تسجيلية لأنه قدم شكلا مختلفا ومغايرا عما كان سائدا لهذا
النوع من الأفلام كان يقوم أفلامه وفق رؤيته الخاصة ويضع لها السيناريو من
خلال أفكاره وليس كما هو المتبع أو السائد فحققت هذه الأفلام جزءاً من
طموحاته وأفكاره خلال تلك المرحلة.
ومن أهم الأفلام التسجيلية والروائية القصيرة التي قدمها خلال تلك
المرحلة «رقصة من البحيرة» 1972- «تعمير مدن القناة «1974 -» وصية رجل حكيم
في شؤون القرية والتعليم« 1976وكان من أهم وأطول أفلامه خلال هذه المرحلة
وكان مدته 21 دقيقة وانطوى الفيلم على أجواء درامية واقعية لأحد مناطق
الريف المصري وحظي الفيلم بترحيب نقدي كبير وعرض في أكثر من احتفالية
سينمائية وبعده بعام واحد يقدم داود فيلم «العمل في الحقل» 1979 عن الفنان
التشكيلي حسن سليمان الذي يعتبره من أهم أفلامه التسجيلية وفي عام 1980 قدم
آخر أفلامه التسجيلية وكان بعنوان «عن الناس والأنبياء والفنانين» بعد هذا
الفيلم وعلى مدى أربع سنوات يعكف داود على كتابة بعض السيناريوهات لأفلام
روائية طويلة بل اتجه للكتابة الروائية وان كان لم ينفذ أو ينشر شيئا عما
كتبه خلال هذه الفترة بل اعتبرها وعاء يضع فيه أفكاره ولا يتسع المجال لذكر
السيناريوهات التي كتبها وقتها.
وفي عام 1984 كان داود عبد السيد على موعد مع مرحلة جديدة مختلفة من
مشواره السينمائي حيث كتب وأخرج أول أفلامه الروائية « الصعاليك» وعرض
الفيلم عام 1985 لذلك فالفيلم يحسب بهذا التاريخ- حسبما تذكر الأفلام
بتواريخ عرضها وليس بتاريخ إنتاجها وكان الفيلم من بطولة نور الشريف ومحمود
عبد العزيز ويسرا وعلي الغندور ومها أبو عوف.. ولم يكن هذا الفيلم هو أول
فيلم يكتبه داود لكنه كان الفيلم الأول الذي ينفذه بالفعل من ضمن ما كتب من
سيناريوهات وجاء الفيلم ليكشف عن فنان سينمائي حقيقي وليس مجرد مخرج
سينمائي والفرق بين الاثنين هائل وشاسع فالمخرج يصنع أفلامه تحت ضغط
التواجد على الساحة أو إثبات الذات أو ربما تحت ضغوط مادية لكن فنان
السينما يصنع أفلامه تحت ضغوط أفكار روحية وفلسفية يريد أن يقدمها وفق
رؤيته للمجتمع والبشر في هذا الفيلم كشف داود عن فنان مهموم بواقعه ويريد
نشر الوعي الصحيح بالواقع فالفيلم- كما اعتبره النقاد- نموذجا للسينما
المصرية الواقعية الجديدة التي لا تكتفي بتصوير الواقع أو التعبير عنه
وتحليله بل تطمح في تجاوزه فحياة الصعاليك التي عبر عنها الفيلم وسار بها
حتى وصلوا إلى الثروة في ظل مجتمع يعاني تخبطا شديدا في قيمه وتياراته
نتيجة للانفتاح الاقتصادي الذي حدث في منتصف السبعينيات وضرب المجتمع في
جذوره ولا يكتفي الفيلم بذلك من خلال تعليقه وتحليله للواقع بل عرج لتمثيل
الفرد من خلال علاقته بالمجتمع ويضرب المقارنة بين ثنائية العقل والقلب
داخل النفس الإنسانية.
وقد حظي الفيلم بنجاح جماهيري هائل وحظي باستقبال نقدي رائع حيث رأى
النقاد أن الفيلم لا يبشر- فقط- بمولد فنان سينمائي جديد بل هو نموذج رائع
لسينما تحليل الواقع وهو أحد الأفلام المهمة في تيار السينما المصرية
الجديدة وكان الفيلم استمرارا بل وإضافة قوية لتيار الواقعية الجديدة الذي
بدأ مع نهاية السبعينيات على يد المخرجين عاطف الطيب وخيري بشارة ومحمد خان
ورأفت الميهي زملاء وأصدقاء داود الذين سبقوه إلى تقديم وإخراج أفلامهم
وعرض الفيلم في العديد من المهرجانات السينمائية المحلية والدولية وحصل على
عدد من الجوائز منها جائزة «العمل الأول في الإخراج» وجائزة التمثيل الأولى
لمحمود عبد العزيز وجائزة أفضل فيلم من مهرجان أسوان السينمائي.
بعد هذا الفيلم والنجاح الذي حققه توقع الوسط السينمائي وجمهور
السينما أن تتوالى أفلام داود عبد السيد لكن داود اختفى تماما ولـ5سنوات
كاملة ولم يقدم أي فيلم سينمائي أما السبب في هذا الاختفاء فهو بسيط للغاية
وهو انه لم يجد الفكرة أو الموضوع الذي يطرحه ويقدمه للسينما وكما ذكرنا
فإن فنان السينما لا تحركه لصنع أفلامه نفس الأمور الأخرى التي تحرك أي
مخرج وفي عام 1991 عاد داود بقوة إلى الساحة حيث عرض له فيلمان دفعة واحدة
خلال هذا العام وهي المرة الأولى والأخيرة في كل مشواره السينمائي الطويل
الذي يعرض له فيلمان في عام واحد.
حيث عرض لهذا المبدع الكبير تحفتين سينمائيتين غاية في الإبداع والرقي
الفيلم الأول «البحث عن سيد مرزوق» الذي أخرجه عام 1990 وعرض الفيلم في
العام التالي وهو من تأليفه وإخراجه أيضا ومن بطولة نور الشريف وآثار
الحكيم ولوسي وعلى حسنين وشوقي شامخ وقبل الحديث عن هذا الفيلم لابد وأن
نشير إلى أن داود عبد السيد يتميز عن أبناء جيله من المخرجين بخلفية سياسية
وثقافية وسينمائية وفلسفية أكثر عمقا حيث حطم داود كل تقاليد الأفلام
المصرية السائدة التجارية منها والفنية في آن واحد بل وتجاوز الواقعية
الجديدة التي صنعها مع جيله وساهم فيها بفيلمه الأول وانطلق إلى آفاق رحبة
في منطقة فناني السينما الكبار الذين يحاولون التعبير عن الواقع الإنساني
بأبعاده الاجتماعية والوجودية المختلفة
الفيلم يخلو من أي حدوتة من أي نوع ويتجاوز كل أساليب السرد الواقعي
إلى أسلوب اقرب إلى السريالية الفلسفية على نحو لا مثيل له في كل الأفلام
المصرية.. ومع ذلك فالفيلم يعبر بقوة وصدق عن الواقع المصري المعاصر في
مطلع التسعينيات فهو يطرح عالم الفقراء والأغنياء والطبقة الوسطى بينهما
وعالم الشعب بطبقاته الثلاث والسلطة الحاكمة من ناحية أخرى.
الجريدة الكويتية في
13/08/2012 |