الخسائر والأطماع السياسية.. هما الدفتان المتحكمتان في استمرار
أو فشل القنوات الفضائية، ما مثل ورطة للإعلام العربي.
فقد اتسعت دائرة
الصراع علي النفوذ الإعلامي في المنطقة لتدخل فيها الحكومات والمنظمات
السياسية،
وبعض رجال الأعمال الذين يمتلكون أجندات سياسية وفكرية، ويتخذون من
الفضائيات وسيلة
لتمرير أهدافهم غير المعلنة، إلا أن أخطر شيء هو استغلال
القنوات التليفزيونية في
إشعال الصراع المذهبي والطائفي، لأن بعض هذه المحطات وصل مؤخرًا إلي حدود
التصادم
الفكري، ومقارعة الحجة بالحجة والاتهام بغيره.
بالأرقام نكشف عن أهم مخطط
لتشتيت هذه الهوية وطمسها، التي تعمل علي ضربها جهات ودول أجنبية.
إذا كانت
وزارة الإعلام المصرية نجحت في كبح جماح القنوات الدينية علي النيل سات،
وإعادتها
إلي دائرة الانضباط، فإن الأيام المقبلة تحمل معها جرس إنذار
شديد اللهجة تجاه
القنوات الخارجية، التي تحركها أصابع خفية، وأصبح لها دور ملحوظ في إثارة
التحريض
السياسي، وزرع بذور الشقاق بين الشعوب العربية، وبسبب لعبة التوازن ومحاولة
التصدي
لهذه القنوات.. بدأت تظهر قنوات أخري مضادة حتي وصل عدد القنوات الفضائية
الناطقة
باللغة العربية إلي 1100 محطة تليفزيونية، تستنزف أكثر من ستة
مليارات ونصف المليار
دولار هي تكاليف التشغيل فقط، بينما الحصة الإعلانية في العام الواحد تدر
دخلا قدره
مليار دولار، ما يعني أن الإعلام العربي يخسر خمسة مليارات ونصف المليار
دولار،
تمثل عجزًا تتحمله الحكومات والمنظمات السياسية ورجال الأعمال.
علي جابر
المستشار الإعلامي للشيخ محمد بن راشد آل مكتوم قدم دراسة بحثية علي هامش
مهرجان
أبوظبي، فجر خلالها مفاجأة من العيار الثقيل.. وهي أن 85% من
مشاهدي العالم العربي
لا يتابعون من كل هذه القنوات إلا 25 قناة فقط، أي أن الصراع الدائر بين
1075 قناة
علي عقل وقلب المشاهد العربي أصبح هدفاً أساسياً.. فيما تبقي 25 قناة أخري
ليست لها
أهداف سياسية، بل إن هذه التوجهات تتحكم أيضاً في طريقة عمل هذه القنوات من
الداخل.
ومما يثير الدهشة أن عدد العاملين في 1075 محطة يصل إلي 800 ألف موظف، 95%
منهم ليسوا متخصصين في العمل الإعلامي، ويتم تعيينهم حسب الولاء للأشخاص
والأحزاب
السياسية أو المذاهب الدينية أو العلاقات الشخصية لضمان التفاني في خدمة
الهدف
المذهبي أو السياسي الذي تنطلق من أجله القناة، وبغض النظر عن
عدم تأهيل هؤلاء
الموظفين إعلامياً، فالمهم هو دورهم في تدعيم هذا الوجه الذي تتبناه القناة.
هذا الأسلوب الإداري أدي إلي تراجع معاهد الإعلام وكلياته في العالم العربي
عن تدريس مواد الإعلام المرئي التي تقتصر علي الصحافة فقط،
وينطبق هذا علي 75% من
هذه الكليات والمعاهد، ولا يمكن لأحد أن يتخيل أن 85% من دخل الإعلانات
تذهب إلي 12
قناة فقط من عدد المحطات الفضائية، وتعد مجموعة الـ«mbc»
هي الأعلي دخلاً ونصيباً
من حصة الإعلانات السنوية، بين هذه القنوات.
إذن فالقنوات الفضائية العربية
ليست استثماراً مربحاً.. بل هي ورطة وقع فيها رجال الأعمال. وهذا ما يفسر
تصفية بعض
القنوات أو دمجها أو حتي بيعها أو إلغاءها نهائياً، لتخلو الساحة أمام
المتبارزين
سياسياً في العالم العربي، ومن أراد أن يلمس ذلك بصورة واضحة
فليتابع القنوات
اللبنانية.
الأمر الواضح في هذا الإطار أن اللعب بالأوتار الطائفية ليس في
لبنان وحده، وإنما في العراق وغيره من البلاد العربية، ما يدفع
بالأمة إلي حافة
الهاوية، وبخاصة بعد دخول عدد كبير من القنوات الأجنبية الناطقة باللغة
العربية إلي
مجال البث الفضائي بدءًا من CNN
حتي قنوات تمثل روسيا والصين وتركيا وإيران وفرنسا،
بالإضافة إلي القنوات المدعمة للنفوذ الفرنسي في شمال أفريقيا.
إن التلاعب
بأوراق التحريض السياسي للشعوب العربية أشبه بتسخين أصابع الديناميت، لأن
التحرك
بهذه الكيفية يقود الإعلام إلي كارثة مذهبية وسياسية وطائفية،
فالجميع يعمل وفق
مصلحته دون النظر إلي المصالح العامة، وشتان ما بين التليفزيون المصري الذي
شكل
ملامح الهوية العربية، وبين ما تفعله الفضائيات الآن.
روز اليوسف اليومية في
25/11/2010
فهمي عمر يفتح خزائن أسراره
القاهرة ـ دار الإعلام العربية
فهمي عمر®. أحد أبرز الأسماء التي أضاءت مسيرة الإذاعة المصرية على مدار 05
عاماً، قدم خلالها نموذجاً مشرفاً للإعلامي العاشق لمهنته، المبدع في
برامجه، والمقدر لعقلية المستمع الذي ينتظره بجوار الراديو.
اشتهر بلقب »المذيع الصعيدي« وكان أول من فتح ميكروفون الإذاعة للرئيس
الراحل أنور السادات ليلقي البيان الأول لثورة يوليو 2591، وخلال رئاسته
للإذاعة تخرجت على يديه أجيال من الإذاعيين واستعادت الإذاعة الكثير من
بريقها. »الحواس الخمس« التقاه ليحكي لنا الكثير من أسرار حياته ومواقفه
الطريفة مع مشاهير السياسة والفن أمثال السادات وأم كلثوم وعبد الحليم
حافظ. .وهذه التفاصيل.يقول عن البيان الأول لثورة يوليو باعتباره أول
إعلامي يلتقي بقادتها: كان من حسن حظي أن أكون أول إعلامي يلتقي بالثورة
المصرية، وقد حدث ذلك بالمصادفة، فحسب جدول العمل بقسم المذيعين كنت المذيع
الذي ينفذ فترة الصباح من البرامج يوم الأربعاء من كل أسبوع والثورة بدأت
فجر الثالث والعشرين من يوليو سنة 1952 الذي وافق يوم أربعاء.
وفي هذا اليوم كنت ذاهباً إلى الإذاعة بشارع الشريفين واسترعى انتباهي
الحصار المفروض حول مقرها من رجال الجيش.
وعندما حاولت دخول الشارع استوقفني ضابط من القوات المسلحة برتبة ملازم
ثان، ولما عرفته بنفسي رحب بي، وصعد معي سلالم المبنى إلى أن وصلت إلى
استراحة المذيعين، حيث كان يجلس البكباشي »مقدم« أنور السادات، الذي عرفته
على الفور وأدركت أن الضباط والجنود جاؤوا من أجل تحقيق الحلم الذي داعب
خيالنا لسنوات طويلة، وقال لي السادات مبتسماً:
إن هناك تعديلاً على برامج الإذاعة وأنه سيقوم بإلقاء بيان خلال الميكروفون
عقب بدء الإرسال مباشرة ولم أتردد لحظة واحدة في تلبية الطلب وقلت له إنني
سأقول بعض الكلمات التي نحيي بها المستمعين وبالفعل دخل السادات الأستوديو
وقلت الجملة التي لن أنساها وهي »سيداتي وآنساتي، أعلنت ساعة جامعة فؤاد
الأول السابعة والنصف من صباح الأربعاء، وإليكم نشرة الأخبار التي نستهلها
ببيان من القيادة العامة للقوات المسلحة يلقيه مندوب القيادة«، وبعد ذلك
جاء صوت السادات ليعلن أول بيان للثورة.
وعن أهم المواقف الطريفة التي جمعته بالرئيس السادات يقول: كان الرئيس
السادات عندما يلتقي بي في أي مناسبة كان يحتفي بي ويقول »أهلاً يا صعيدي«؛
لأنني اشتهرت في بداية عملي بالإذاعة بلقب المذيع الصعيدي، حتى التصق هذا
اللقب بي على الدوام وكنت سعيداً به جداً، وأذكر أنني طوال فترة دراستي
الجامعية بالإسكندرية ظللت متمسكاً بلهجتي الصعيدية.
وأذكر عن الرئيس السادات أنه في ليلة عرس ابنته من محمود عثمان ابن الراحل
عثمان أحمد عثمان كنت أحد المدعوين في الفرح من قبل المهندس عثمان أحمد
عثمان وكان السادات وعثمان يقفان بجوار بعضهما ليسلما على المدعوين وعندما
لمحني الرئيس السادات صاح بملء فمه »تعال يا واد يا صعيدي«.
وسلم عليّ بحرارة وأردف يقول للمهندس عثمان »هو ده يا عثمان الولد اللي فتح
لي الميكروفون يوم 23 يوليو«، وتبسط معي الرجل في الحديث وسألني عن حالي
وأحوالي وكان ودوداً باسماً، لذلك ستظل لقاءاتي به حية في الذهن.
كوكب الشرق
علاقته الوثيقة بأم كلثوم، يتذكرها قائلاً: في أحد الأيام جاءت أم كلثوم
إلى استوديو رقم 1 بمبنى الاستوديوهات لتستمع إلى تسجيل الحفل الغنائي الذي
تقيمه في الخميس الأول من كل شهر وكانت تحرص على الحضور إلى الاستوديو
لتجهيز بعض الأغاني لإذاعتها حسب رضاها.
وأذكر أنني دخلت الاستوديو لأبحث عن سماعة أذن خاصة بي كنت قد نسيتها في
الاستوديو في اليوم السباق؛ وفوجئت بوجود أم كلثوم بالاستوديو، كانت لها
هيبة وشموخ لا أستطيع أنا المذيع الحديث العهد بالإذاعة إلا أن أهتز أمامها
وكان بجوارها ابن شقيقتها المهندس محمد دسوقي الذي كان يعمل في إدارة تشغيل
استوديوهات الإذاعة وعندما شاهد ارتباكي هدأ من روعي وقام بتعريفي بأم
كلثوم.
ويضيف مستطرداً عن تقديمه حفلاتها: كل مذيع من جيل الخمسينات وأنا منهم،
كان يمني نفسه بتقديم حفل من حفلات كوكب الشرق أم كلثوم وكان كل منا يتساءل
بينه وبين نفسه، متى يحين الوقت الذي يخطره فيه كبير المذيعين بأن الأمنية
على وشك أن تتحقق؟ لكن ما الذي سيقوله الواحد منا بعد تقديم الرواد أمثال
محمد فتحي وعبد الوهاب يوسف وحافظ عبد الوهاب لهذه الحفلات، فهؤلاء كانوا
يتصفون بالكلام الجميل والأسلوب المشوق.
لذلك عندما أبلغني كبير المذيعين في نهاية شهر فبراير 4591 بأنني سأكون
مذيع حفل أم كلثوم ليلة الخميس الأول من شهر مارس؛ كانت سعادتي غامرة وفي
الوقت ذاته كان خوفي وفزعي كبيرين وظللت قرابة الأسبوعين قبل الحفل وأنا
أعيش الحلم الممزوج بالخوف.
وعن كواليس ليلة الحفل يقول: كان الحفل بمسرح الأزبكية بوسط القاهرة وتوجهت
إلى خلف المسرح، حيث كانت كوكب الشرق تستعد لبدء الحفل وأتذكر عندما دخلت
عليها أنها استقبلتني بابتسامة عريضة، وقالت على الفور »أنا فاكره المذيع
الصعيدي« وضحكت ضحكة عالية.
وربتت على كتفي مشجعة مما أدخل الطمأنينة إلى قلبي، كما أن جمهور الحفل
الذي كان يسترق النظرات إلي وأنا أمام الميكروفون فضلاً عن الملايين التي
تستمع إليّ عبر الراديو، كل ذلك هدأ من توتري حتى جاء موعد الحفل وانتقل
الميكروفون من الاستوديو إلى مكان الحفل بمسرح الأزبكية وأخذت أقول ما حلا
لي من القول على مدى خمس دقائق قبل أن يرفع الستار عن أم كلثوم.
وعندما بدأت دقات المسرح التقليدية الثلاث التي تسبق رفع الستار انطلق صوتي
يقول »والآن أيها الستارة ترفع السادة عن أم كلثوم وفرقتها الموسيقية لتغني
لنا« وكانت هذه هفوة طريفة ضحك منها زملائي الذين استمعوا إلي وقالوا
»بتحصل مع أحسن المذيعين«.
مع عبد الحليم حافظ
صداقته بالعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ يقل عنها: لا أدعي أنني كنت على
صداقة قوية بعبد الحليم ولا أزعم أنني كنت من بين من يسهرون في منزله أو
أدعي كما يقول البعض أنني من أعز معارفه، فعلاقتي معه بدأت من خلال وجوده
كعازف موسيقي في فرقة موسيقى الإذاعة، وكنت أشاهد شاباً ضئيل الحجم وسط
مجموعة من العازفين أغلبهم من ضخام القامة فأشهد أنه كان له حضور يجعلنا
نحن المذيعين نسلم عليه ونتجاذب معه أطراف الحديث.
كان اسمه عبد الحليم شبانة وله شقيق اسمه إسماعيل كان يغني في الأركان
الإذاعية مثل ركن الريف والعمال، وكان عبد الحليم يجلس معنا في قسم استراحة
المذيعين عقب الانتهاء من تسجيلات الفرقة الموسيقية محاولاً أن يثبت لنا
بأنه يجيد الغناء وكان يغني أغنيته التي دخل بها امتحان الصوت »صافيني
مرة«، وحينذاك كان الأستاذ حافظ عبد الوهاب يرأس قسم الموسيقي واستمع إليه
ثم جمع له لجنة الموسيقى التي استمعت إليه وأجازت عبدالحليم، الذي أصبح
اسمه عبد الحليم حافظ بعد أن أعطاه حافظ عبد الوهاب اسمه.
وأذكر أن شقة الراحل جلال معوض بشارع سليمان جوهر بحي الدقي قد شهدت أمسيات
جميلة شاركنا فيها، وكثيراً ما صاحبني عبد الحليم ليشاهد المباريات وتعرف
آنذاك على نجوم الكرة عصام بهيج ويكن حسين وعلاء الحامولي، وكانت له سهرات
معنا في نادي الزمالك، حيث كنا نعتقد جميعاً أنه من مناصري نادي الزمالك
لكن عندما اشتهر عبد الحليم وأصبح نجماً قال لي إنه أهلاوي صميم.
وأذكر أيضاً أنني كنت السبب في صداقة عبد الحليم ومجدي العمروسي؛ لأن مجدي
كان زميل دراسة بكلية الحقوق، لذلك فأنا أضحك كثيراً عندما أسمع من أناس
الآن أنهم هم السبب في هذه الصداقة.
البيان الإماراتية في
25/11/2010
مهمة تلفزيون فلسطين
راسم المدهون
أهم ما قدمه تلفزيون فلسطين الى اليوم هو تلك البرامج التي تتناول مآل
المدن
والبلدات التي ظلّت هناك وراء «الخط الأخضر»، والتي طاولتها يد
التهويد خلال العقود
الستة الماضية.
الحلقة التي تناولت الحياة اليوم في يافا، كانت أكثرها أهمية، إذ قدمت صورة
حقيقية للخراب الذي وصلته بالمقارنة مع مجدها السابق حين كانت
تضج بالحياة
الاقتصادية والعمرانية، كما بالنشاط الأدبي والفني.
بمشاهدة تلك الحلقة، استعدنا حديث الآباء والأجداد عن يافا التي أبدع في
وصف
فتنتها محمد مهدي الجواهري، والتي غنت فيها أم كلثوم ومحمد
عبدالوهاب وأسمهان وفريد
الأطرش وغيرهم، والتي جاء إليها محمد عبدالوهاب خصيصاً لحضور العرض الأول
لفيلمه «الوردة البيضاء».
قد لا يستطيع تلفزيون فلسطين أن ينافس الفضائيات الكبرى، ولا نطالبه بذلك،
ولكنه
يستطيع – وضمن إمكاناته الراهنة – أن يكون حقيقياً، وأن يقدم
برامج تعبّر عن الحياة
الراهنة في فلسطين من مختلف وجوهها: يحتاج المشاهد الفلسطيني والعربي أن
يرى ويسمع
الكثير عن أولئك الفلسطينيين الذين ظلوا متشبثين بأرضهم هناك، وأن يعرف
أكثر عن
نشاطات حياتهم، خصوصاً في الأدب والفن ووجوه الثقافة الأخرى.
هي ملاحظة تدفع الى التساؤل: هل كانت هجمة التهويد الشرسة التي عاشتها
فلسطين
لتتحقق بهذا اليسر لو كانت هناك كاميرا التلفزيون؟
هو سؤال لا يريد تبسيط الصراع إلى هذا الحد، لكنه في الوقت ذاته يطمح
للإشارة
إلى أهمية توثيق كلّ ما يجري، وتقديمه للعالم، ونحن بالطبع
نعيش عصر الصورة، ونعرف
المدى الذي تصله في تأثيرها، وفــي قدرتها على خلق الرأي العــام العالمي
وتوجيهه
لدعم فلسطين وقضيتها العادلة، وتعريف العالم في بــلدانه البعيدة بحقيقة
العناوين
الإخــبارية التي باتت بلا معنى أو تفسير بــعيداً من الصورة.
هواجس كثيرة تحضر مع حضور موضوع العلاقة بين الصورة التلفزيونية والأحداث
اليومية في فلسطين. وهي هواجس تشكل مشاريع فنية يمكن تحقيقها
بإمكانات ليست باهظة
الكلفة، وإن كانت عظيمة التأثير وذات شأن مصيري في الصراع الدائر بالوسائل
والأسلحة
كلها، والهادف الى تحويل فلسطين إلى بلاد لا تشبه نفسها.
الحياة اللبنانية في
25/11/2010
في رثاء المخ العربي 'المركب غلط'
توفيق رباحي
ـ كنت أود طرق هذا الموضوع منذ مدة غير قصيرة، لكن موضوعات أخرى
كانت دائما تفرض نفسها فأخرته، وها قد جاء يومه.
دعونا نطرح هذا السؤال ونتأمله
بهدوء وبعيدا عن التشنج والمغالاة: هل المخ العربي ـ عموما ـ
'مركب غلط؟'. طبيعي أن
لكل واحد جوابه، أما أنا فجوابي: نعم
كبيرة، بل ضخمة وبدون تحفظ ، مع احترامي لكل
الذين لديهم أو يحلمون بجواب آخر غير هذا.
أبدأ من العام ثم أصل الى الخاص
شارحا: يحدث أن أتابع برامج 'الجزيرة مباشر' التي يتاح فيها
للناس الاتصال هاتفيا،
ليس حبا في شيء إنما هروبا من برامج أخرى
تسبب الضجر. وكذلك لأن في كليات الصحافة
قيل لنا ان الاستماع لآراء الناس دليل أو بوصلة الصحافي، فها نحن نستمع!
مؤخرا
كنت أتابع 'مباشر مع' عن السودان في ما أذكر، عندما اتصل مشاهد من دولة
خليجية لا
أحفظ اسمه. قال بدون مقدمات: أبغى أسلم وايد على غادة عويس!
اعتقدت لأول وهلة أن
غادة عويس ملكة بريطانيا الجديدة أو وليّة عهد السعودية، لكن اتضح لي بعد
بحث سريع
أنها إحدى حسناوات الأخبار بقناة 'الجزيرة' الأم. قطع القائمون على
البرنامج
الاتصال وحاولت الحسناء الأخرى، المذيعة، أن تنقذ الموقف بالقول مبتسمة:
'تأكد أن
سلامك سيصل'، لكن لسان حالها كان ربما يقول في صمت: يخي مسكين يخي!
هي المسألة
أصلا غلط، لكنني تمنيت لو تُرك الرجل يقول كل ما عنده، فلعل الأمر عنده مهم
وضروري،
وربما انتظر المسكين شهورا وأسابيع كي تتاح له الفرصة، وعندما أُتيحت مُنع
من
الكلام. واعتقادي أنه ما كان ليخرج عن الأدب العام، فيا خسارة.
في الأسبوع ذاته
والبرنامج ذاته، أثناء نقاش جاد اتصل آخر ـ من السعودية حسب التعريف ـ
وقال: 'أبلغ
تحياتي للسيدة الفاضلة المحترمة الأخت خديجة بن قنة'. ثم استرسل كلاما،
وبسرعة
فائقة باغت الجميع منتقلا الى كلام عن إيران والشيعة وغيرهما، فقال: اشبيكو
انتو..
أطلب من المسؤولين عن 'الجزيرة' أن ينظفوها من الوجود الإيراني.
مرة أخرى سارع
القائمون على البرنامج الى قطع الاتصال تاركين المذيعة ـ الحسناء رقم 3 ـ
مذهولة
ومرتبكة هذه المرة. كان هذا يوم الخميس، ثالث أيام عيد الأضحى على ما أذكر.
هذا
غيض من فيض.. لدي قصص أخرى كنت شاهدا عليها أو رويت لي، وأعرف أن العاملين
في غرف
استقبال الاتصالات بالاذاعات والمحطات التلفزية يحتفظون بمئات القصص
والطُرف عن
مستمعين ومشاهدين، لكن ليس هذا موضوعنا.
قبل فترة قصيرة كنت في سيارة أجرة
بالجزائر، فأراد سائقها أن يكسر صمتا طال بيننا. قال: 'ماجر
(لاعب الكرة الجزائري
المشهور) سيصبح رئيس الفاف' (اتحاد الكرة).
سألته من دون اهتمام: والله.. من أين لك
هذا الخبر؟ أجاب: حطوها فالجرنان! ثم ناولني جريدة معربة يحتل صفحتها
الأولى عنوان
منسوب لماجر: مستعد لتولي رئاسة الفاف (إذا طلبوا مني) ـ أو شيء قريب جدا
من
هذا.
من أين جاء السائق بهذه الثقة والصيغة التوكيدية لكلامه؟ استنتاج مخه ـ
المركب غلط ـ طبعا، وإلا لقال، مثلا، إن ماجر يعتزم أو يريد ترؤس 'الفاف'.
أصل
الآن الى الخاص: الأسبوع الماضي عرضت بهذا المكان وجهة نظر عن تعاطي
التلفزيونات
المغربية مع أحداث العيون، فقامت القيامة ولا تزال. نشرنا أزيد من مئة
تعليق على
المقال، وكان مصير مثلها سلة المهملات، لأن أصحابها تجاوزوا حدود الأدب.
وإلى نهار
أمس كنت ما ازال أتلقى رسائل الكترونية حول الموضوع تصب كلها في اتجاه
واحد. كما
أحتفظ بنحو 50 رسالة، تسعة أعشارها خارج الموضوع، ناهيك عن المضمون البذيء
لكثير
منها. قررت أن أحتفظ بهذه الرسائل لأولادي حتى أعرّفهم بالدليل الحي ما هو
المخ
المركب غلط والعقل الذي يستوعب جوانب الأفكار لا صلبها.
أقول ثور، يقولون:
احلبوه! دفعتني تلك الهبّة العظمى الى إعادة قراءة المقال بتروٍ، فلم أجد
فيه ما
يشير الى أن الصحراء مغربية أو غير مغربية. ولم أجد فيه ما يحيل الى أن
سكان مخيم
العيون على حق أو على باطل. ولم أجد فيه حرفا عن أن الجزائر أفضل من المغرب
أو أسوأ
أو أي مجال للمقارنة.
كل ما في الأمر وجهة نظر قابلة للنقاش، لكن تسعة أعشار
الذين قرروا الإلقاء بثقلهم في الموضوع
مروا على الهامش فناقشوا القشور وتركوا
اللب. فهموا المقال كما سوّلت لهم أنفسهم
منطلقين من أحكام مسبقة، وليس كما يجب أن
يفهموه. بعضهم عادوا قرونا الى الوراء، الى الموحدين والمرابطين
والزيانيين، وآخرون
ألغوا تاريخ الجزائر، وغيرهم شككوا في مستقبلها. تماما كأن تقول ان القمر
غائب
الليلة فيثور في وجهك أحدهم: ولماذا لا تقول ان أشعة الشمس مفيدة للعظام؟
تضمن
المقال جملة عن زيارة مدينة العيون بالنسبة لكثير من الصحافيين الجزائريين،
وقلت إن
ذلك يشبه زيارة القدس الواقعة تحت الاحتلال. فكان أن قصفني أكثر من قارئ
برسائل
طويلة جدا تلومني بشدة وحدة كيف أقارن بين العيون والقدس!
هذا هو ما قلت عنه
أعلاه انه استيعاب جوانب الأفكار وترك صلبها.
بالنسبة لي، لا فرق بين هؤلاء
وبين الذي يكلف نفسه عناء وثمن مكالمة خارجية كي يسلّم على
غادة عويس وسط نقاش
يتعلق بمصير السودان، ويعتقد أن مكالمته هي
أهم ما في الكون في تلك
اللحظة.
أحاول أن أقرأ صحف المغرب ومتابعة تلفزيوناته ما استطعت. وقد شدني في
سهرة الثلاثاء نقاش مباشر مع وزير الإعلام خالد الناصري حول أحداث العيون،
خصص جزء
منه للتغطية التلفزية المغربية. لم أتعجب وأنا استمع لأفكار وانتقادات تشبه
تماما
ما ورد في مقالي الماضي. بل أن خالد الناصري قالها بالفم الملآن: ارتكبنا
أخطاء.
هنا مربط الفرس، كلنا نمضي يومنا ننتقد بلداننا وحكوماتنا ونقول فيها ما
قاله
مالك في الخمر، لكن ما أن تأتي هذه الانتقادات من 'غريب' حتى تستيقظ فينا
تلك
الشوفينية المقيتة النائمة في أعماق كل واحد منا. هذا هو بالضبط ما حدث مع
مقال
الأسبوع الماضي. وليس المغاربة أسوأ من غيرهم، كلنا في الهمّ غمّ، وقد جلبت
لي تسع
سنوات من الكتابة المستمرة بهذه الزاوية ردودا مشابهة، كلها تبدأ بـ'وأنت
اش دخلك'،
من فلسطينيين على مقالات عن منظمة التحرير، ومن مصريين عن مقالات عن الحكم
المصري،
ومن سودانيين عن مقالات عن الرئيس الركن المشير العميد عمر البشير، ومن
أردنيين عن
مقالات عن الأردن.. وهكذا.
وأنتم أعلم مني بأن في السودان ومصر والجزائر والمغرب
وفلسطين والأردن وسورية وكل مكان من هذه
المنطقة الموبوءة، لا همّ للناس غير لعن
حكوماتهم وبلدانهم من طلوع النهار الى حلول الليل.
كلنا نسخة مكررة لثقافة
الاقصاء والحجر المتسللة الى أعماق أعماقنا.
لا أريد أن أظهر وكأنني في صراع مع
فئة من الجمهور، لأنني فعلا لست كذلك. وليس الأمر متعلقا بشخصي
ومقالي بقدر ما هو
متعلق بعقل لا يساورني شك في أنه 'مضروب'.
إنني أؤمن بأن هذا الموضوع أخطر ما يواجه
مستقبل هذه المجتمعات.
بصدق، إني أرثي هذا العقل العربي المسكين الذي يرفض وجهة
نظر مختلفة ويعجز عن استيعاب فكرة بسيطة،
أو يستوعبها كما يشاء هو لا كما تريد هي،
كي يسمح لنفسه بجلد الآخرين وسحلهم فكريا. وإني أحزن على الفقيد محمد عابد
الجابري
الذي أفنى حياته باحثا في كنه هذا
العقل.
استدراك لابد منه: لا تلغي هذه اللوحة
السوداء وجود عقول سليمة ونيّرة ومتوازنة
والتي أتساءل عن حال الدنيا لو لم لم تكن
موجودة.
تفاصيل.. للاستراحة
ـ أنصح طائفة من الصحافيين المغاربة
بأن يتجاوزوا أزمة قناة 'الجزيرة' وحكومة
بلادهم. لا تفعلوا مثل رجل يتطلق وزوجته
ثم لا يتوقف عن الحديث عنها في مجالسه العامة والخاصة وكأنها لم تكن زوجته
ذات
يوم.
ـ ما زالت 'ام بي سي' ومحطات تلفزية أخرى كثيرة تبث مسلسلات تركية
مدبلجة للسورية. وما زلت أتساءل هل بقي هناك من يشاهدون هذه المسلسلات؟
ـ
ردت قناة 'ميدي1 تي' المغربية على الجزائر بإبراز (بالصوت والصورة) مواجهات
بين
الشرطة وسكان حي القبة في العاصمة يوم الثلاثاء أسفرت عن وقوع جرحى، تعامى
عنها
التلفزيون الجزائري. ردت وكأنها تقول: لكم العيون ولنا القبة!
أما أنا فقولي ان 'اللي
كلا دجاج الناس يسمّن دجاجه'.
ـ أضم صوتي الى زملاء سبقوني إليها:
أفضل برنامج حواري في القنوات العربية اليوم هو 'مثير للجدل'
الذي تقدمه قناة
'أبوظبي'. أكثر جدية وعمقا ورصانة وفائدة لمن يفهم ويريد أن
يستفيد. لكن لا حظ
لصاحبته فضيلة سويسي، والحال هنا مثل
مسابقات ملكات الجمال.. هل الفائزة بلقب ملكة
جمال العالم أو فرنسا أو الصومال هي حقا أجمل البنات؟ ألم يقولوا قديما انه
يوجد في
النهر ما لا يوجد في البحر؟
ـ بثت قناة 'ميدي1 تي في' في سهرة الثلاثاء
تحقيقا ـ قديما ـ من انتاج فرنسي عن اغتيال
رفيق الحريري، تكلم فيه كل الذين سارعوا
الى اتهام سورية بالجريمة، بدءا من وليد جنبلاط ووصولا الى سعد الحريري.
وأنا أشاهد
التحقيق سألت نفسي: ألم يقل لهم أحد إن هذا التحقيق أصبح في حكم الملغى
بحكم أن
وليد بك وجماعته انقلبوا 180 درجة وسافروا الى دمشق طالبين الصفح؟
*
كاتب
صحافي من أسرة 'القدس العربي'
toufik@alquds.co.uk
القدس العربي في
25/11/2010 |