الموهبة تفرض نفسها.. لكن هل تحتاج كرة القدم الى مهارات
خاصة بخلاف ما يحتاجه الممثل على خشبة المسرح أو أمام الكاميرا كليتهما
يقال له «لاعب».. لكن شتان بين لاعب بالقدم يعتمد على اللياقة العقلية
والبدنية.. بينما الممثل يعتمد على العقل والتركيز واللياقة الذهبية... فهل
كان لأوضاع البلاد ونهضتها في عصر عبدالناصر وازدهار الفنون أثره على تغيير
مسار نور الشريف أم أنها الرغبة الخاصة التي رجحت كفة اللعب بالعقل على
اللعب بالقدمين هذه هي الحكاية:
يا زمالك يا هندسة كان نادي الزمالك في هذا الوقت يعيش عصره
الذهبي بنجومه الكبار المشاهير.. وقاعدته الجماهيرية العريضة خاصة في
الأحياء الشعبية فالقاهرة وباقي العواصم قسمت نفسها بين الأهلي والزمالك
وكانا يمثلان للناس البدائل الحقيقية عن الأحزاب السياسية.. يصب فيها
المواطن كل شحنات التعصب الموجودة داخل كل منا.
نجحت في اختبارات الزمالك والحقيقة أنني لم أكن واثقا من
استمراري في الملاعب.. فأنا أفكر بعقلي أكثر مما أفكر بقدمي.. كره القدم
تحتاج الى امكانات بدنيه والتمثيل يحتاج الى امكانات عقليه وفى المدرسة
الابراهيمية الثانوية حاولت بالطبع دخول فريق التمثيل لكنى اكتشفت أن الأمر
يكاد يكون شبه مستحيل لان الطلاب الكبار الذين ينتمون الى السنوات النهائية
وأصحاب سنوات الخدمة الطويلة في الثانوية العامة كانوا يسيطرون على هذا
الفريق.
وكان معي في هذه الفترة مصطفى الدمرداش.. وجمال منصور
المؤلف والمخرج المسرحي وشقيق الفنان الكبير أيضا صلاح منصور.. وذات يوم
علمت أن المدرسة استدعت المخرج التلفزيوني المشهور احمد طنطاوي ليقوم
باخراج مسرحيه سالومى لفريق المدرسة.. وأعلن في طابور الصباح عن الفرصة
لهواة التمثيل.. وتقدمت على الفور فهذه هي التي كنت أنتظرها.. واختارني
الأستاذ طنطاوي لدور عسكري قرأت المسرحية ومثلما يفعل الممثلون الكبار رفضت
الدور وكان أول اعتذار في حياتي.
وطلبت من الأستاذ طنطاوي أن يعطيني دورا غيره لكنه بروح
التحدي رفض طلبي فتركت فريق التمثيل كله.. غير أسف.. وركزت كل اهتمامي في
مركز شباب الجزيرة مع صلاح هنداوى وكانت السيدة الجليلة عزيزة حلمي ترعى
هذا الفريق وبدون مقابل واعلن المركز عن معكر يقام في الاسكندرية.
..
ووافق أهلي على مغادره القاهرة لأول مره والاشتراك في هذا
المعسكر.. الم اقل لكم أن حياتي كلها سفر من تجمع الى تجمع.. ومن طموح الى
طموح.. ومن مكان الى مكان؟
أول دراسة
لم يكن معسكر الاسكندرية مجرد رحلة شبابية للترفيه فقط
و(البلبطة) أقيمت مسابقه في الدراسات المسرحية.. واشتركت فيها بأول بحث
كتبته في حياتي.. كانت قيمه البحث أنني لأول مره أفرز قراءاتي في دار الكتب
وأنظر من كان يفرز الدراسات والجوائز في هذا المعسكر أنهما الأستاذان سعد
أردش وكمال ياسين وحصلت على الجائزة الأولى وأدركت وقتها أنني امضي على
الطريق الصحيح للمعرفة.. تذكروا جيدا اسم الأستاذ سعد أردش.. فهو الذي
شجعني على أن أخوض اختبارات الدخول الى التلفزيون كممثل في مسرحه الذي أنشأ
مع بداية التلفزيون عام 1960 وكانت الاختبارات تتم في مسرح الهوسابير..
معسكر الاسكندرية سهل كثيرا من مأموريتي في الامتحان واستطعت الحصول على
دور الكومبارس يقول جمله واحده أمام الفنان حمدي احمد وكانت الجملة تقول:
يا عبدالرافع اذا كان ده مكان الاجتماع.. فده بيتك الخاص يا آخى شوف لك
طريقه في العيال دول ّ
لم تكن المسألة جمله في مسرحيه بل كانت فرصه للتعرف على
(جو) أو مناخ الفن الحقيقي على مستوى المحترفين ولعل دخولي هذا المجال
مبكرا والتطلع الى خبايا هذه الصناعة ساعدني كثيرا عندما قررت بعد الثانوية
العامة أن ادخل معهد التمثيل المسرحي ضاربا عرض الحائط بمجموعي الذي يؤهلني
لدخول كليه التجارة.
لم تكن مسألة دخول المعهد سهله وخاصة أن كلمات الأستاذ حمدي
في المدرسة الاعدادية كانت ما تزال ترن في أذني: معهد التمثيل مستقبله غير
مضمون وهى تقريبا نفس الحجة التي كانت تواجهني من أولياء أمري حرصا على
مستقبلي ومع ذلك كنت أكثر اصرارا على دخول المعهد وفى هذا الوقت تعرفت
بالفنان يحيى اسماعيل وأخرج لي مشهدا من (هاملت) كانت جواز مروري لدخول
المعهد حيث لا بد من اختبار في التمثيل أمام لجنه من كبار الفنانين
والمخرجين والنقاد.. لا اعرف لماذا اخترت هاملت ولا اعرف لماذا كنت متمسكا
الى هذا الحد بالمعهد حتى أنى بدأت أتراجع كرويا وأشعر أنني أحاول في
الملعب أن أفلسف الكره فنيا بما لا يحتمل الأمر في الملعب وكم اصطدمت مع
المدربين كثيرا.. لو كانت كره القدم بالنسبة لي مجرد وسيله للشهرة
والانتشار لتمسكت بها.. لأنني في نادي الزمالك ثاني اكبر الأندية المصرية
والطريق أمامي مفروش بالورد لكي أصبح نجما بين يوم وليله بهدف أو لعبه أو
بطوله أشارك في تحقيقها مع زملائي.. فقط القليل من الصبر لكي أضع قدمي في
الفريق الأول مع النجوم المشاهير..
رأفت عطية وحمادة امام وعبده نصحي ورفاعي ثم طه بصري وسمير
محمد على واحمد مصطفى واحمد رفعت وغيرهم.
مع الأستاذ.. هاملت
كان (هاملت) هو الجسر الذي دخلت به معهد الفنون المسرحية
لكي اشعر لأول مره وأنا أتسلم بطاقتي كطالب أنني قد وضعت قدمي على الطريق
الصحيح..لدخول عالم الفن من الباب الرسمي بعيدا عن الفهلوة والشطارة.. وفى
المعهد التقيت أستاذي المخرج نبيل الألفي وهو نقطه ارتكاز هامه في رحلتي
الفنية هو الذي اخذ بيدي وهو أيضا الذي قطع يدي في البداية..
كان يختبرني في احد المشاهد وأنا طالب جديد في المعهد..
ووجدني متعثرا في الحفظ فقال لي بالحرف الواحد: أنت متنفعش ممثل.. شوف لك
شغلانة تانية.
أظلمت الدنيا في وجهي وانهارت كل طموحاتي فقدت الخيط في
ملاعب الكره وها أنا افقده في ملعب الفن دخلت غرفتي أبكى هذا الوهم الذي
عشته وأدركت أختي عواطف أنني في حاله انهيار فحاولت أن تصنع المستحيل من
اجل التخفيف عنى.. كانت عواطف بالنسبة لي هي الجهاز المانع للصدمات.. هي
الاسفنجة التي تمتص همومي وعذاباتي واحباطاتي المستمرة بين عشيه وضحاها..
ونفس الشيء لعمى اسماعيل وعمتي ولولا حنان هؤلاء وتفانيهم من أجلى لضاع كل
شيء منى.. لقد حاولت وأنا في المعهد أن أكمل رحله الاحتراف بالاشتراك في
مسرحيات متنوعة كممثل للأدوار الثانوية.
وعرفت أن التلفزيون يبحث عن (كومبارس يتكلم) بمرتب ثمانية
جنيهات شهريا وهو مبلغ يكفى لنفقاتي في هذا الوقت أسرعت الى الاختبارات
التي يشرف عليها المخرج الأستاذ نور الدمرداش وكلى ثقة.. اننى سأنجح..
لأنني اعرف.. كان معي في نفس الطابور محمد وفيق وعبد العزيز مخيون وميرفت
سعيد ومجدي وهبة (رحمه الله).. جاء دوري أمام الأستاذ نور ووقفت أؤدي
المطلوب فاذا به يقاطعني بسؤال:
أنت طالب في المعهد ( يقصد معهد الفنون المسرحية) قلت: نعم.
قال: طيب مع السلامة روح بيتكم!!! أوح بيتنا هذه علامة أنني
لا أصلح حتى أكون طالبا في معهد التمثيل.. وضاعت الجنيهات الثمانية.. وضاعت
الفرصة وفشلت وما أحوجني الى الجنيهات والفرصة والنجاح. وبعد أن هدأت قررت
بروح التحدي ألا ادخل التلفزيون ألا نجما.
كان التحدي ساذجا ولكنه كان وسيله لحماية نفسي من الانهيار
والسقوط في بذر الاحباط.
على الطريقة اليونانية
في نهاية السنة الأولى من دراستي بالمعهد أي في العام
الدراسي 63-64 كنت ادرس المسرح اليوناني وكنت أيضا أجد أن كل ما يعرض على
من ادوار عبارة عن شاب وسيم يحب وكنت اشعر بتفاهتي في مثل هذه النوعية..
ورفضت هذه الأدوار والتقيت بالأستاذ نبيل الألفي وكان يستعد لتقديم مسرحيه
(أجا ممنون) ملك الملوك وقررت أن العب البطولة.. وعرضت الأمر على أستاذي
ووافق مبدئيا.
وبدأت ادرس الدور وأحفظه وقضيت الساعات الطوال.. أتدرب..
حتى اقتنعت بيني وبين نفسي أنني قد أصبحت جاهزا تماما وان الأستاذ سوف يصفق
لي بحرارة ورحت أتلو على الحاضرين حديث أجا ممنون العائد لتوه من الحرب
ليواجه بالخيانة الداخلية ممثله من الزوجة وتخلى الابن وبكاء للابنة
الصغيرة.
أهلا... ها قد عدت تحيط بك النياشين وقاده الأسطول أنت شمس
وكلهم كواكب.. لكن تراك هنا بين هذه الجهات الأربع تظل لا تعي مهزوما..أنت
في يدي أيها السيف أم تراك سيف المنتصر.. آه أيتها الرياح العانية لم يعد
بمقدور أشجار الخريف مقاومتك!!
انتهيت من تلاوة هذا الجزء من دوري وانتظرت رده الفعل من
الحاضرين وبالتحديد من أستاذي.. وطال الانتظار حتى نطق الأستاذ بما أسكتني
نهائيا؟!
كان الطالب محمد جابر يتحرك على خشبة المسرح أمام أستاذه
نبيل الألفي بثقة فقد درس مسرحيه (أجا ممنون) وحفظها عن ظهر قلب.. وظن انه
سيمتلك قلب وعقل الأستاذ وباقي الحاضرين وبعض الأساتذة الآخرين والضيوف وهو
ينشد:
-
يا ابنه ليدا.. يا مناط دارى.. كفى مديحا وكفى ثناء..
ترحيبك الطويل يليق بى بعد غيبتى الطويله لكن هذا المدح والتكريم من أهل
بيتي أو من الأقارب لا ينبغي أن يطرب الفؤاد وانما يجيء من أفواه الآخرين
يعلنون حبهم ثم أرى سيدتي الكريمة تفسدني ببهرج النساء وتحتفي بى كملوك
الشرق تعضر الجبين عن قدمي لتتعالى نبرة الولاء.. لا تفرشي هذا البساط
القاني فالأرجوان نقمه الملوك يجعل كل خطوه أخطوها تفيض رهبه وكبرياء..
أرجو اذن أن تجعلي تحيتي تحيه لبشرى فان..
أكمل (جابر) المقطع الشعري على لسان (أجا ممنون) ووقف في
لحظه صمت يلتقط أنفاسه وينتظر أن يتلقى من الحاضرين صدى ما قال لكن الصمت
خيم على المكان تماما، وانطلق الأستاذ نبيل الألفي يقول بأعلى صوته وأمام
الجميع للطالب المتحمس (أف)
وكاد(جابر) أن يسقط .. فقد اهتز به المكان واهتزت به الأرض
كلها.. انه بكل ما تعنيه الكلمة لا يصلح كممثل.. بعد عناء طويل استجمع شتات
نفسه وكيانه المبعثر وراح يسأل الأستاذ عن سر غضبه فقال له: المفروض يا
محترم انك تؤدى دور ملك الملوك.. العائد المنتصر من الحرب وأنت ألقيت
الكلمات بدون تجسيد للحظات الانتصار وأيضا للحظات الانكسار الداخلي للملك
المهزوم في مشاعره!
اللعنة على التمثيل
لم يكن من السهل عليه أن يبتلع هذا الاخفاق وهو الذي قرأ
كثيرا عن فن اعداد الممثل حتى قبل أن يدخل معهد التمثيل.. لقد تعرف في دار
الكتب المصرية ومن أول زيارة على ((ستلافسلافسكى)) أبو الأداء المسرحي _
الذي أقام صرح التمثيل الحديث ليجعل من المسرح وسيلة للمعرفة والتسلية في
أن واحد.
تذكر (جابر) وهو في طريق عودته من أكاديمية الفنون بالهرم
الى منزله بحي السيدة زينب.. قول (ستلافسلافسكى) أن حقيقة تعبير الممثل
يمكن أن تولد من الأشياء والملابس وقطع الاكسسوار بدون الاعتماد فقط على
الأداء الصوتي الصاعد والهابط.. انه الرجل الذي أسس أداء الممثل على الحياة
الداخلية للشخصية وقد كان يطلب من تلاميذه أن يمثلوا خلال ساعة من الزمن
واقفين لا يتحركون منفصلين الواحد عن الآخر.
وخلال هذا الوقت كان يصف لهم حركه مرور السيارات وكان على
الطلبة أن يطابقوا بين أوضاع أجسامهم وبين ما كانوا يسمعون.. لان الجسد
الانساني عنده وسيله قويه للتعبير الحركي.
كان لب تفكير (ستلافسلافسكى) الممثل الى مرتبه الفنان
والشاعر وكانت المفارقة الأساسية.. كيف يمكن للفنان أن يمثل دور (ريتشارد
الثالث) اذا لم يكن قد اغتال شخصا ما.. فالمرء لا
يستطيع أن يمثل دور (ريتشارد الثالث) اذا لم يجد في ذاته
تشابها معه في ماضيه ولا يحدث ذلك بمجرد شعارات وأكليشيهات يتصور من خلالها
شخصيه المجرم.
ففي الطفولة في يوم مت كنت أتعامل مع حيوان ما وأجرجره بشكل
سادى ومن هنا يحدث التماس والتقارب فقط عليك في كل دور تلعبه.. أن تفتش
وتبحث عن نفسك فيه.
ويقول (بريخت): الذي لا يعرف شيئا لا يستطيع أن يجسد شيئا..
كانت هذه الكلمات تعتصر ذهن الممثل التلميذ وهو يقاوم الزحام داخل الأتوبيس
المشحون بالعرق والأنفاس والضجيج والانتظار.
درس من الفشل
عن هذه المرحلة يقول نور الشريف أو جابر سابقا: كنت اشعر
بالهزيمة تقتلني ومع ذلك فان تلك الهزيمة زرعت في داخلي عنادا لا أول له
ولا أخر.. جعلني أكثف تدريباتي واقطع الليل بالنهار بحثا عن أسلوب جيد في
الأداء يليق بما تعلمت وقرأت وبما أود الوصول اليه كممثل سوف يتخرج من
المعهد ويحترف هذه المهنة.. وكانت المفاجأة في نهاية العام الدراسي اننى
نجحت وتفوقت على كل زملائي وحصلت على المركز الأول.. كانت مفاجأة لهم..
ولكن بالنسبة لي كان الأمر متوقعا فقد زرعت وتفوقي هو النتيجة الطبيعية عند
الحصاد.
الطريف أن فشلي في (اجاممنون) تحول الى نجاح ساحق في
(هاملت).. وبين تلك المسافة عشت أزمة مرعبه بكل المقاييس.. كان التلفزيون
قد بدأ عصر ارساله في مصر وكانت المقاييس المستقرة في الأداء الصوتي أو
الجسدي تعتمد على المبالغة والزعيق لاستجداء التصفيق من الجمهور وهى مسألة
طبيعيه نتيجة خروج اغلب ممثلي التلفزيون من المسرح وعدم وجود الخبرة
الكافية للتعامل مع هذا الجهاز الجديد بأداء تعبيري يناسبه ويختلف عن
المسرح ولم تكن قدراتي التكوينية تؤهلني لمثل هذه المبالغات أو هذا الزعيق
وبدأ زملائي يتهمونني بعدم الصلاحية ألا للأدوار الكلاسيكية أي ادوار العقل
والتفكير وبالتحديد ادوار العقد النفسية والفلسفية ومن هنا فشلت كممثل
عندما تقدمت الى لجنه امتحان عقدت بالتلفزيون لاختيار مجموعه من الكومبارس
المتكلم كنت واحدا منهم.. كنت أتعشم أن أحقق تلك الخطوة فهي تضعني كطالب في
المعهد على أول درجات سلم الاحتراف.. ويكفى أنني سأحصل على مرتب شهري قدره
أربع جنيهات.
رفضتني اللجنة وقبلت بعض أصحاب العاهات الصوتية واللسانية
وفقدت الثقة من جديد في كل شيء حولي وكان منطقيا أن افقد الثقة بنفسي..
ساعتها قلت اننى اخترت الطريق الخطأ بدخول معهد الفنون المسرحية وأنني من
الضروري أن ابحث لي عن مهنه أخرى اضمن بها مستقبلي الذي أكاد أراه في عالم
الفن مجرد سراب.. أنني ارفض أن أسير على قضبان مثل قطار لا يخرج عن خط
السير المرسوم له.
النهار
الكويتية في
12/07/2013 |