في العام
1975، قدم الايراني محسن مخملباف
فيلما من تأليفه واخراجه بعنوان کراكب
الدراجة عن لاجئ افغاني فقير في ايران، يسوق
دراجته الهوائية علي شكل دائري لمدة سبعة ايام كي يدفع رسوم المستشفي الذي
ترقد فيه
زوجته المريضة، معاناة بطل الفيلم هذا كانت بمثابة مجاز للمأزق الافغاني
آنذاك، حيث
المنطقة كانت موبوءة بالحرب، بالتناحرات القبلية.
في العام
2001، عاد محسن
مخملباف الي الموضوع الافغاني من خلال فيلم کقندهار الذي كتبه
وانتجة واخرجه وتولي
مونتاجه، وبتمويل ايراني وفرنسي. لكنه في
هذه المرة لم يتناول حال شخصية في محيط
اجنبي، بل ذهب الي الاراضي الافغانية من
خلال صحفية افغانية تقيم في المنفي (كندا)،
اسمها (نفس)، والتي تسافر الي الحدود الايرانية - الافغانية راغبة في
الذهاب الي
قندهار حيث تعيش شقيقتها العاجزة عن احتمال حكم طالبان، والتي هددت
بالانتحار في
غضون ايام قليلة.
من مخيم اللاجئين، حاملة معها جهاز تسجيل صغير، تنطلق (نفس) مع
عدد من العائلات في اتجاه افغانستان، دليلها رجل عجوز وافق علي اخذها علي
أساس انها
زوجته الرابعة لكن هذا العجوز يوبخها بشدة عندما تكشف الحجاب عن وجهها في
احدي
المحطات التي يتوقفون فيها لتناول الطعام.في احدي القري تستأجر صبياً (كان
الملا قد
طرده من مدرسته بعد اخفاقه في تلاوة آية من القرآن بشكل صحيح) ليكون دليلاً
لها الي
قندهار في القرية التالية، تذهب (نفس) لاستشارة طبيب يتضح انه امريكي جاء
الي
افغانستان باحثاً عن الله، والذي حارب السوفييت مع المجاهدين ثم حارب مع
الطاجيك ضد
البشتون وبالعكس حتي اكتشف اخيراً ان الطريق الوحيد الي الله هو في اسعاف
الافغان
الذين يموتون لابسط العلل الجسدية: البرد، الاسهال، الطفيليات، الجوع.. وهو
يضع
لحية مستعارة، يتطوع لتوصليها.
في مركز للصليب الاحمر يتوقف الاثنان، والطبيب
الذي لا يستطيع دخول قندهار يقنع شخصاً
بذراع واحدة ان يرافق (نفس). هذا الدليل
الجديد يتنكر في هيئة امرأة، ومعاً ينضمان الي مجموعة تزف عروساً في اتجاه
قرية
مجاورة يتعرضون فيها للتفتيش من قبل ميليشيا طالبان الذين يصادرون كتاباً
وآلة
موسيقية.
مخملباف بني السيناريو علي قصة الصحفية الافغانية نيلوفر بزيرا (التي
مثلت نفس الدور) عندما استلمت وهي في كندا رسالة من صديقة لها (وليس اختها
كما في
الفيلم) تخبرها بانها قررت الانتحار مع نهاية القرن. الفيلم، بالتالي، يطرح
من وجهة
نظر انسانة قادمة من الخارج، بلا انتماء سياسي علني او صريح، وبدافع انساني
بحت
وليس لغرض الادانة او الفضح السياسي المبيت.
مع (نفس) نحن نلتقي باشخاص - اولاد
او غيرهم يمثلون نماذج مصغرة من الفئات
التي تعيش في الواقع الافغاني انها تصادف
الشحاذين، المحتالين، اللصوص، قطاع الطرق، العمال المزارعين الذين لاشأن
لهم
بالصراعات والتناحرات لكنهم يذهبون وقوداً لها، ضحايا الحرب من ذوي العاهات
او
الاعضاء الناقصة (تشير الاحصائيات الـي ان عدد ضحايا الالغام في افغانستان
في العام 2000
بلغ 1100 ضحية).
الأولاد الذين يرافقون الصحفية يجسدون بدورهم مظاهر مختلفة
لما يدور في المجتمع الافغاني الرجل العجوز المشبع بالعادات والاعراف
القبلية -
التقليدية، والذي يعنفها عندما ترفع الحجاب للتحدث اليه وذلك لانها - من
وجهة نظره -
قد ارتكبت فعلاً شائناً وفاضحاً، الصبي الذي قد يموت جوعاً بعد طرده من
المدرسة
الدينية، الامريكي الذي لم يجد في افغانستان غير الدمار والامراض والحروب
التي لا
تنتهي واخيراً ضحية الالغام المزروعة في كل مكان انها رحلة لا تنتهي، لا
تصل الي
نهاية المطاف، عبرها يتعرف علي المناطق الغامضة والتي اختبرت كل انواع
الجنون
والعنف والحروب. الجميع مروا علي هذه الارض لكنها لم تكن لاحد، كأنها ارض
محرمة علي
البشر، وبين وقت وآخر تستخدم كحلبات تتصارع فيها الامم والطوائف والمذاهب
والقبائل
المتناحرة. انها الارض التي تطمس اي اثر للتقدم والحداثة، وفيها تسود قيم
القرون
الوسطي، وعليها تتغذي السلفية الدينية. الظروف التي تمنع او تعطل وصول
الصحفية الي
الموقع الذي تريد، هي نفسها الظروف التي تجعل من افغانستان بلداً متخلفاً
ورجعياً.
الفيلم يصور رعب الحياة في افغانستان في ظل حكم طالبان.. هذا النظام
الذي نجح في قذف البلاد خارج الزمن، خارج العصر، وملأ الاراضي القاحلة
خوفاً
ويأساً، واشاع حالة عامة من التشوش. وصارت قندهار مدينة مخيفة يخشي الجميع
دخولها،
ولا بد من الحيطة والحذر عند الذهاب اليها، لكنها ايضاً المدينة التي عندما
يعالج
الطبيب احدي مريضاته، فان هناك ستارة بينهما، والاتصال او الحديث يتم عن
طريق طرف
ثالث هو صبي وفي السيارة ثقب يسمح لطبيب بمعاينة العين او الفم، ويسمح لنا
بان نري
اجزاءً من المرأة. هكذا يري المتفرج، طوال الفيلم الافغانية، مجرد شظايا،
اجزاء
منزوعة من الكيان الانساني، المرأة تتواري خلف حجاب او نقاب ثقيل، ومن خلال
الفتحات
او الشقوق تتحدث او تري. المرأة هنا تعيش في حالة مطلقة من المجهولية، من
الصمت، من
البكم القسري، والمفارقة انها من تحت البرقع تتزين وهي تعلم جيداً بان
احداً لن يري
مظهرها وشكلها.. وانها مرئية كشيء- ساكت او متحرك - لكن ليس ككائن حي له
مشاعر
ومطالب واحلام.
ضمن هذا المحيط الواقعي - السريالي يركز مخملباف علي استعباد
المرأة الافغانية والتعامل معها كشيء، ويشدد علي اظهار البرقع لهذا
الاستعباد، لكن
للبرقع اكثر من وظيفة في الفيلم، فهو بقدر ما يحجب ويواري، فانه ايضاً يحمي
- العين
الخارجية، عيون الآخرين، لا تري ما يوجد خلف البرقع، الذي يستر اشكالاً
بشرية
غامضة، يتعذر تمييزها، والتي تنتقل من مكان الي آخر. وفي الوقت نفسه،
البرقع يستر
ما يعتبر فضيحة او حراماً او خروجاً علي القانون القبلي. تحت البرقع تختفي
الاظافر
المطلية واحمر الشفاه والاساور والكتب والآلات الموسيقية واجهزة التسجيل
وحتي الرجل (عندما يضع الدليل البرقع متظاهراً بانه امرأة لتحاشي
الاعتقال).
الفيلم يتحرك
علي الخط الفاصل بين الوثائقي والدرامي، وعلي الرغم من مادة الفيلم الجريئة
(مرأة
وحيدة تسافر عبر مواقع برية موحشة ومقفرة، وثقافة مغايرة وملتبسة، كما لو
انها
تسافر عبر الزمن عائدة الي ماضٍ غابر) الا ان المخرج مخملباف يتحاشي تقديم
دراما
صارخة، ويختار بدلاً من ذلك التعامل مع المادة عبر وسيلة هي مزيج من
الوثائقية والقصصية، وهي الوسيلة التي دأب العديد من السينمائيين
الايرانيين، خصوصاً بعد
الثورة الاسلامية، علي استخدامها والتلاعب بها ببراعة.
من جهة اخري يحاذر
مخملباف من عرض ما يشبه الريبورتاج (التحقيق الصحفي) المباشر
وذلك بتصوير الواقع،
في بعض مظاهرة، كعالم غريب، غبي تقريباً،
وذي بعد سريالي في احدي مقابلاته، قال
مخملباف في حديثه عن فيلمه هذا ان کواقع
افغانستان هو، بذاته سريالي.
ومن اكثر
الصور غرابة، ذلك المشهد الذي نري فيه مجموعة من ضحايا الالغام، المبتورة
سيقانهم،
يتسابقون - في حركة بطيئة - عبر الصحراء، مستعينين بعكاكيزهم، رافعين
ابصارهم الي
السماء التي تمطر مظلات تابعة للصليب الاحمر وتحمل اعضاءً اصطناعية، وكل من
هؤلاء
يسعي قبل غيره للحصول علي ما ينقصه.
لقد صور مخملباف فيلمه علي الحدود الايرانية
-
الافغانية مستخدماً ممثلين غير محترفين.. ومن ذلك خلق عملاً
ربما هو متكامل لكنه
قوي ومؤثر.. مركزاً في مدة قصيرة لا تتعدي
85
دقيقة علي قضايا معينة، وعلي مجازات
محددة، مدركاً بان احداً
غير قار علي الامساك بتعقيدات الوضع
الافغاني في فيلم ما،
ايا كانت مدته.
الوطن
البحرينية
في 11 يناير 2006