إلحاقاً بمقالنا عن فيلم ثيو أنجليلوبولوس «تحديقة يولييس»، ننشر هنا في
حلقتين حديث المخرج عن فيلمه وعن فنه السينمائي.
#
كل مخرج سينمائي يتذكر المرة الأولى التي نظر فيها من خلال محدد الصورة أو
الرؤية
View Finder
(جهاز صغير على هيئة إطار مثبت بالكاميرا ويمكن بواسطته رؤية ومعاينة حدود
المنظور من وجهة نظر الكاميرا)، إنها اللحظة التي هي ليست إكتشافاً للسينما
بقدر ما هي اكتشاف للعالم، لكن تأتي لحظة يبدأ فيها المخرج بالارتياب في
قدرته الخاصة على رؤية الأشياء عندما لا يعود يعرف ما اذا كانت تحديقته
سليمة وبريئة.
#
أردت أن أحقق فيلماً يتصل، بطريقة أو بأخرى، بالأوديسه. وعندما زرت صديقي
وشريكي في الكتابة تونينو جويرا، (كاتب السيناريو الايطالي) الذي سبق أن
عملت معه في أربعة أفلام، تحدثنا طويلاً - في قرية بشمال إيطاليا حيث يعيش
- عن طبيعة ونوعية الرحلة، ثم شرعنا في مناقشة النزاع العرقي في دول
البلقان. قبلها كان تونينو قد خرج واشترى نسخة من الأوديسه باللغة
الايطالية، وفيما كان يقرأ لي مقاطع منها، وتحديداً عن عودة يولييس دون أن
تتمكن زوجته بنيلوب من التعرف عليه، سمعنا طرقات على الباب. جاءت فتاة
حاملة هدية لي من ابنة النحات الإيطالي جياكومو مانزو، عبارة عن منحوتة
لرأس يولييس، مع رسالة منها تقول فيها كيف أن والدها النحات كان مأخوذاً
بفكرة تحديقة يولييس، وأن أمنيته الأخيرة كانت أن يجد طريقة لنحت هذه
التحديقة، التي تحتوي المغامرة أو التجربة الإنسانية كلها. ها هنا كنا
نناقش الأوديسه وفجأة تأتي هذه المفاجأة.. هذه الزيارة المفاجئة.. كأنها
علامة من السماء. هكذا توصلنا الى عنوان فيلمنا.
إنه يتعلق بمخرج سينمائي فقد رغبته في تحقيق الأفلام. يوماً ما، أثناء
زيارته لجزيرة ديلوس المقدسة، مسقط رأس الاله أبولو، يرى رأس أبولو المصنوع
من رخام ينبثق على نحو غامض من شق في الأرض ثم يتهشم الى أجزاء كثيرة.
يحاول المخرج أن يلتقط صورة لهذا الحدث لكن عندما يحمض الصورة لايرى شيئاً.
يتضح أن الرأس قد انبثق من الموضوع ذاته الذي ظهر فيه أبولو - إله الضوء -
لأول مرة. في ذلك الموضع، الذي هو مصدر الضوء، كان الضوء قوياً جداً
بالنسبة الى الكاميرا.
هذه الحادثة تفضي بالمخرج الى التفكير في الأفلام الأولى التي أنتجت في
البلقان أيام السينما الصامتة. ويكتشف بأن هناك فيلماً واحداً لم يتم
تحميضه أبداً. هذا الفيلم يصبح هاجس المخرج - الذي يسعى الى مصدر للإلهام -
والذي يشرع في البحث عنه عبر دول البلقان: بلغاريا، اليونان، سكوبيا،
ألبانيا، رومانيا، بلغراد، وأخيراً سيراييفو. هناك، في سراييفو، وفيما
القنابل تتفجر من حوله، يصل الى موقع »أرشيف الفيلم« الذي كان قد تعرض
للقصف. وهناك يتمكن من مشاهدة الفيلم الأول بعد أن يقوم العامل في الأرشيف
بتحميض الفيلم: فيلم صامت بالأسود والأبيض، أنتج في العام ٢٠٩١ عن ممثل
يؤدي دور يولييس، تجرفه الأمواج حتى شاطئ إيثاكا.. حيث تنتهي رحلته.
والممثل - يولييس ينظر الى الكامير محدقاً في المخرج، ومن خلاله يحدق في
القرن العشرين.. إنها تحديقة يولييس وقد اكتلمت.
#
كما قلت: نقطة الانطلاق كانت الأوديسه. وأنا أشير الى الأسطورة لا إلى نص
هوميروس. إنها ذات الأسطورة التي استخدمتها من قبل في فيلمي »رحلة الى
كيثيرا«. وفقاً للأسطورة فإن يولييس يعود الى إيثاكا لكنه لا يستقر فيها.
بعد فترة يغادر ثانية في رحلة أخرى.
الفيلم نفسه رحلة شخصية لرجل، مخرج سينمائي نميزه بحرف
A،
والذي يلتمس الوسيلة للخروج من الأزمة التي هي ليست أزمته الخاصة وحسب، بل
أيضاً أزمة جيل كامل. إنه يستجوب نفسه وما اذا كان لا يزال قادراً على رؤية
الأمور التي تدور حواليه بوضوح، وإذا كان لا يزال قادراً على الخلق، وهل
هناك ما يمكن اكتشافه وما يمكن اختراعه من أشياء جديدة. الى مدى أكبر، فإن
أزمته هي أزمتي أيضاً. الفيلم كذلك سفر عبر البلقان والتاريخ الأوروبي في
القرن العشرين، بحثاً عن العلب الثلاث المفقدوة التي تحتوي أفلام الأخوين
ماناكي الأصلية. هذا البحث يأخذنا عبر تاريخ السينما الذي هو أيضاَ تاريخ
عصرنا. الأخوان ماناكي ليسا شخصيتين خياليتين. هما شقيقان.. تماماً مثل
مخترعي السينما الأخوين لوميير (أوجست ولوي)، هما أول من حققا أفلاماً في
دول البلقان. هذا البحث ليس فقط عن الأفلام لكن أيضاً عن ما تمثله، عن
اكتشاف براءة ونقاوة اللقطة الأولى التي صورتها الكامير، ضرب من الإثارة
التي يبدو أننا قد فقدناها الى الأبد.
#
إنها البراءة التي تسبق الاكتشاف. هل نحن أبرياء الى حد كاف، ومتاحين
عاطفياً، لمواجهة المعجزة والاعتراف بها كما هي، في حد ذاتها؟ فيما يتعلق
بقصة الحب، فإن المحبوبة تتغير أربع مرات، لكن الوجه يظل نفسه دائماً، لذلك
تقوم ممثلة واحدة بتأدية الأدوار الأربعة. إنها المرأة المثالية التي يحلم
بها كل مراهق بوصفها المثال الرومانسي.
#
بالنسبة لي، الغاية من بحث البطل هو اكتشاف ذاته.
#
إنه فيلم عن البدايات.. أول كل شيء: الحب الأول، النظرة الأولى، العواطف
الأولى التي سوف تكون دائماً الأكثر أهمية في حياة المرء. كنت دائماً
مفتوناً بما يحدث أولاً: الأفلام الأولى، أو تجربة المرء الأولى بشأن
الفيلم. فلليني قال ذات مرة بأنه عندما وضع عينه للمرة الأولى على عدسة
الكامير، اكتشف أن ما كان يبدو محدداً ومؤكداً ومألوفاً، صار يبدو غريباً..
وهذا صحيح تماماً.
عندما يتحدث الفيلم عن البراءة الأصلية للنظرة الأولى فإنها لا تشير الى
السينما وحدها، انه عن الحاجة أو الضرورة، بوجه عام، الى رؤية العالم من
جديد بدون أي أفكار مقصورة سلفاً.. كما لو للمرة الأولى إن هذا النزوع الى
مشاهدة الأفلام القديمة، والمنتشرة في هذه الأيام، هو بطريقة ما تعبير عن
الحنين الى براءة الأفلام، وبراءة متفرجي السينما في الأيام الأولى.
#
المخرج، في الفيلم، لا يحمل اسماً، وإن كان يحمل حرف
A
في السيناريو. لكن
A
ليس أنا، ليس أنجيلوبولوس.
#
الفيلم يتصل بالسيرة الذاتية روحياً. إنه عن أفكاري، عن الأسئلة التي
أطرحها بشأن قضايا البلقان، عن السينما، عن، الوضع الإنساني. إني أعرف ما
تعنيه الحرب الأهلية. لقد حكم الشيوعيون على أبي بالموت خلال الحرب
الأهلية اليونانية ومع أنه أفلت من الإعدام إلاّ أن أسرتي انتهى بها الحال
الى الانقسام وتضارب بعضهم البعض لست محللاً سياسياً، ولا أستطيع أن أقرر
بأن هذا الجانب طيب والآخر شرير. اني ببساطة أتحدث عن أفراد يعانون من
نتائج جنون الحرب.. أياً كان الجانب الذي ينتمون إليه.
#
الفيلم يتناول تاريخ هذا القرن (العشرين)، بالتالي فإن استخدام الفلاش باك
هو أمر إلزامي هنا. شعوري هو أن الماضي جزء متمم للحاضر. الماضي ليس
منسياً، إنه يؤثر في كل ما نفعله في الحاضر. كل لحظة من حياتنا تتألف من
الماضي والحاضر معاً، الحقيقي والمتخيل معاً.. كلها تتمازج وتتألف في لحظة
واحدة.
#
مشهد تمثال رأس لينين والكاميرا تتحرك على مهل حول الرأس.. كان ذلك وداعاً
لمرحلة، لعصر كنت أقول وداعاً لكل ما كان جزءاً مني، من طفولتي وشبابي. ذلك
التمثال المحطم يمثل النهاية.. نهاية كاملة.
#
إني ببساطة أقول ما قاله أرسطو عن التراجيديا. إن الدراما - أو الفيلم -
ينبغي أن يثير الشفقة والخوف في الجمهور، ثم يخلق متنفساً به يتم إطلاق
سراح العواطف ليس لفيلمي نهاية سعيدة لكن له متنفس، انفراج، إعتاق للخوف
والشفقة. وهذا لا يحبط ولا يوهن العزيمة. أن تبكي، والذي هو جزء من
التنفيس، أمر ضروري اذا أراد المرء أن ينجح. ما هو التنفيس في فيلمي؟ إنها
القصيدة من الأوديسه التي يليقها هارفي كايتل في النهاية. وهذا يعني أن
رحلته سوف تعود، هي لم تنته بعد. رحلة العثور على وطن تستمر.. وهو ضرب من
الأمل. ذلك لأنه، بالرغم من كل شيء، يبدأ في الإحساس بالوئام مع نفسه
والعالم.
#
في الفترة الأخيرة كنت منشغلاً بأفكار عن المنفى والرحلة.. الخارجية
والداخلية معاً. وعن إمكانية الحلم في هذا العالم حيث غياب الأحلام. الآن،
كما يبدو، نحن نحيا وحسب يوماً بيوم، ومن الصعب حقاً أن نؤمن بأي شيء
بالنسبة لي، »الوطن ليس حيث بيتك لكن المكان الذي تشعر فيه بالانسجام
والتناغم.. والمكان، في حالتي، عبارة عن سيارة تجتاز منظراً طبيعياً. وما
يهم ليس الوصول بل السفر ذاته. كذا ففي هذا الفيلم، عودة البطل الى الوطن
هو أيضاً سفر، بداية رحلة جديدة.
#
أخشى أن صوراً كثيرة جداً تغمرنا وتحجبنا، إنهم يمطروننا بوابل من الصور
التلفزيونية التي تهاجمنا من كل اتجاه الى حد أننا لا نعود نملك الحساسية
لاكتشاف الجواهر التي قد تصادفنا.
#
ثمة أزمة في أوروبا فيما يتصل بالجمهور، فالأفلام الأمريكية تحتل أكثر من
ثمانين في المئة من الشاشات في بلدان معينة. إنها أشبه بالامبرطورية،
وبالتالي نحن نتلقى الثقافة والتربية الأمريكية من نواح عديدة. أنا لست ضد
هذا، لكنني ضد الاحتكار. اختلافاتنا هي التي تثير الاهتمام، ولو أصبح
العالم كله متشابهاً، لبدا الأمر مضجراً.. مضجراً جداً.
#
المسرح، بالنسبة لليونانيين، هو أساسي. نحن نتعلمه في المدرسة، نعيش معه،
نراه يؤدى بطريقة كلاسيكية أو يعاد تنفيذه في إطار مختلف وجديد. ثمة الكثير
من التراجيديا الكلاسيكية تنفذ في الأوبرا أيضاً.
#
بالنسبة للقطات الطويلة، المديدة، والتي تستغرق دقائق طويلة دونما قطع..
حسناً، هناك مخرجون ذوو أسلوب مختلف جداً والذين أستمتع بأفلامهم كثيراً.
وبينما نجد أن ثمة اختلافاً أسلوبياً بين همنجواي وفولكنر، على سبيل
المثال، فإن أحداً لا يجرؤ أن يسأل أحدهما: لم تكتب بهذه الطريقة؟.. ذلك
لأنه مجرد ضرب من التنافي الداخلي، الإيقاع الداخلي.
(يتبع)
حريدة الأيام
في 6 فبراير 2004