المخرجان الأمريكيان كيربي
ديك وآمي زيرنج
كوفمان قدما في العام
2002
فيلماً وثائقياً بعنوان دريدا،
يقوم علي لقاءات مطولة
أجراها المخرجان مع
دريدا وزوجته مرجريت وابنه رينيه إضافة إلي آخرين. هنا نترجم ما
كتب مايكل ويت في مجلة
sight and sound، عدد مارس 2003،
عن انطباعاته حول هذا
الفيلم.
إنه بورتريه وثائقي للفيلسوف
الفرنسي جاك دريدا. إننا نري دريدا، في
البداية، بشعره الأشعث
وهو في طريقه إلي الحلاق، ثم نلحق به وهو يخطط للعلاقة بين
الفلسفة والبيوغرافيا
(السيرة الذاتية) بلغة إنجليزية لا عيب فيها تقريباً، في
مؤتمر أكاديمي. دريدا
يظهر وهو يوجه خطابه إلي إحدي الحلقات الدراسية. والفيلم يؤكد
الطريقة التي بها نشاط
دريدا الفكري قد تردد صداه عبر التخوم الصارمة منذ أربعة
عقود خلالها أنتج أكثر
من 54
كتاباً.
يتناول الفيلم أيضاً تأملات
وملاحظات دريدا
بشأن العلاقة بين
الواقع المادي لحياة الفيلسوف وكتاباته. من ناحية أخري، الفيلم
يتعاقب بين صور لدريدا
العام
ودريدا کالخاص
خلال مرحلة تمتد ثماني
سنوات، من
مائدة الافطار إلي
ستوديو التلفزيون، ومن اجتماعات عائلية إلي مجموعة من قاعات
المحاضرات. والفيلم
يمزج شظايا من المقابلات مع المادة الوثائقية ومقتطفات من كتبه
علي شريط الصوت.
إننا نتابع الرجل العجوز،
المفعم بالنشاط، والبالغ من العمر
72
سنة،
في رحلاته من فرنسا إلي الولايات المتحدة وإلي جنوب إفريقيا، حيث يجمع بين
محاضرة عن موضوع
کالغفران
وزيارة إلي زنزانة كان نيلسون
مانديلا محتجزاً
فيها.
الفيلم بورتريه منفذ ببراعة
وبشكل جميل للفيلسوف جاك دريدا بوصفه نجماً
جذاباً وكثير الأسفار.
إنها ليست محاولة لتقديم فلسفة دريدا علي نحو نظمي وتصنيفي،
أو لاستنطاق تعقيدات
هذه الفلسفة. ولا يقصد من هذا توجيه نقد للفيلم، بل نعتقد أن
الفيلم، في أغلب الظن، سوف يلقي قبولاً وارتياحاً من قبل العديد من الطلبة
الذين وجدوا صعوبة فائقة
في فهم مؤلفات دريدا.
إن جاذبية هذا الفيلم تكمن في
مكان آخر،
في انفتاحه علي كل
الوافدين الذين ليس لديهم إطلاع واسع، جنباً إلي جنب مع أولئك
المتضلعين إلي حد بعيد
في فكر دريدا - وفي اللمحات التي يقدمها الفيلم نحو المنزل
والحياة العملية لواحد
من أكثر فلاسفة اليوم أهمية وشأناً.
التوكيد في المقابلات هو علي عرض الذهن
التحليلي المتألق وهو يعمل. دريدا مرهف الملاحظة في المشاهد التي
تقتضي منه أن يناقش
موضوعاً يطرح علي نحو اعتباطي تقريباً، وينتظر منه أن يرتجل
بتوسع في إجاباته علي
أسئلة الكاميرا. عندما تنجح الاستراتيجية فإن النتائج تكون
رائعة: مراقبة دريدا
وهو يلاحق فكرة أو يصوغ ويجيب علي سؤال يطرحه بنفسه، هي - هذه
المراقبة - غالباً ما
تكون ساحرة، كما عندما يوجه إليه مثل هذا السؤال: ما الذي
تود سماعه من هايدجر
أو هيجل أو كانت في فيلم وثائقي مماثل لهذا الفيلم؟ (كانت
إجابة دريدا: حياتهم
الجنسية).
هناك أيضاً مقابلات مع وعن
أفراد عائلته:
المناقشة الطارئة،
العرضية، عن حبه لأخته. الرهبة التي تظهر علي وجه أخيه رينيه
فيما هو يحاول أن يقدم
بياناً عن مواهب جاك. محاولة جاك وزوجته مرجريت تذكر اليوم
الذي التقيا فيه للمرة
الأولي في يوم عطلة وذلك في العام
1953.
الثيمة البنائية
المركزية للفيلم هي ما
يقدمها دريدا نفسه في البداية عندما يورد تلخيص هايدجر لحياة
أرسطو: کولد.. فكر..
ومات، وكل ما تبقي هو محض حكاية.
الفيلم يستنطق بدماثة هذا الوضع، وثمة في
ما يبدو تشكيلة عشوائية من الوقائع البيوغرافية (المتعلقة
بالسيرة الذاتية)
العادية أو المألوفة: دريدا كان قد طرد من المدرسة وهو في سن
الخامسة عشرة لأنه كان يهوديا. ورفض عرضاً من الكاتبة والمخرجة السينمائية
مرجريت
دورا لتأدية دور في أحد
أفلامها. وفي فترة مراهقته، حلم دريدا بأن يصبح لاعب كرة
قدم محترفا.
المخرجان لا يعتمدان علي
السرد الكرونولوجي (المتسلسل زمنياً) بل
ينتزعان من الأجزاء
المصورة ما يتلاءم مع تركيب بورتريه سمعي بصري مفعم بالحيوية
وجذاب للغاية والفيلم
يذكرنا أحياناً بأشكال واستراتيجيات السينما السياسية في
السبعينات، مقترحاً في
المقام الأول عبر الاستطراد والكولاح، مازجاً أحجام
BETA وDV.
إن معالجة صانعي الفيلم،
المتسمة بالاحترام، للمادة، إضافة إلي حضور دريدا
الذي يبدو جذاباً
وحليماً ويقظاً ومرحاً، ومليئاً بالطاقة، كل هذا يجعل من مشاهدة
الفيلم والاستماع إلي
دريدا تجربة ممتعة، وبصرف النظر عن دور الفيلم في حث المتفرج
علي البحث عن أقرب
مكتبة لشراء مؤلفات دريدا، فإن الفيلم يظهر ذلك الحضور الساحر
(الكاريزمي) لدريدا
والذي يضاهي حضور النجم السينمائي.
لقد تركني الفيلم مع فكرة غريبة بعض الشيء:
ماذا لو استطاع مخرجو الموجة الجديدة في الخمسينات أن يلتقطوا
دريدا جنباً إلي جنب
مع بريجيت باردو وبلموندمر، ماذا لو نجحت مرجرريت دورا في
إقناعه بأن يمثل في
فيلمها.. هل كان يمكن لتاريخ الفلسفة وتاريخ السينما الفرنسية
أن يتغيرا، وأن يبدو
مختلفين تماماً عما هي الآن؟
حريدة
الأيام
في 1 يونيو 2003