تكملة لحديث المخرج اليوناني ثيو انجيلوبولوس
عن فيلم »الأبد ويوم واحد«،
وعن اشياء أخرى:
«ما انهيت كتابة سيناريو
الفيلم حتى أحسست بأن مارسيلو ماسترويان هو الأنسب للدور، لقد اصبحنا
صديقين
حميمين منذ ان عملنا معاً في »مربي
النحل«، لكن عندما التقيت به في
مدينة رميني بإيطاليا، اثناء انعقاد مؤتمر عن فلليني، ادركت ان حالته الصحية
سيئة جداً وسوف لن تسعفه في
تأدية الدور، لم استطع ان اصارحه بذلك، لكن هو
الذي بادر بإخباري بذلك، كان شاقاً علي ان اراه هكذا، اشبه بشبح وتلك
كانت المرة الأخيرة التي رأيته فيها،
اذ فارق الحياة بعد فترة قصيرة. اما
برونو غانز »النمساوي«
فقد شاهدته في باريس وهو يمثل على خشبة المسرح
دور يوليسيس،
وقد لاحظت انه يشبه تماماً الشخصية التي
تخيلتها بلحيته
وملابسه، هو خجول جداً، منطو جداً، وقريب جداً
من الشخصية التي مثلها في
الفيلم، ولم يكن بحاجة لأن يمثل، لسوء الحظ لم استطع ان اوظف صوته،
فالشخصية يونانية وكان علينا ان نلجأ الى الدوبلاج، ذات مرة سمعته
يسرد
بالألمانية، ورغم اني لا اتقن هذه اللغة الا ان صوته قد حرك مشاعري. يتعين
عليك، كمخرج،
ان تخلق المناخ المناسب الذي فيه يجد الممثل موضعه الخاص لا
ينبغي ان تقدم له اي
شروحات وتفسيرات، أنا لا أؤمن بذلك، أؤمن باتصال
مباشر أكثر حميمية وعاطفية،
بالتجول معاً والتحدث معاً، لقد تفاجأ برونو
غانز من تعامل كهذالأنه اعتاد العمل مع مخرجين يفسرون الكثير، خصوصاً في
المسرح. لا استطيع ان اكون حيادياً وغير مبالٍ
تجاه ما يحدث من حولي ومن
جهة أخرى، فأنا يوناني جداً في اهتماماتي، كل فنان يتأثر بعمق المكان
الذي يعيش فيه، بحيث يمكن لعمله ان يصبح ضرباً من السيرة الذاتية
الروحية، الكتب التي
نقرأها، الاشخاص الذين نلتقي بهم، طفولتنا
ومراهقتنا -أكثر سنواتنا أهمية-
كلها تشق طريقها نحو افلامنا، كما تفعل أمور
مثل الحرب، خلال الحرب الأهلية اليونانية،
ليس فقط عائلتي انقسمت الى شيوعيين
ومعادين للشيوعيين، بل ان أبي كان قد تعرض للاعتقال على أيدي
الشيوعيين وحكم
عليه بالموت، غير انه هرب ونجا، عندما كنت في التاسعة،
أخذتني امي الى
حجرة مليئة بالجثث للتعرف على جثة ابي، كيف بوسعي
الا أتأثر بعمق مما يحدث
حولي مثلما أتأثر بكل لحظات السعادة والحزن، اللغة،
المنظر الطبيعي، وغير
ذلك. ثمة دائماً احالات الى واقع تاريخي ومعاصر، لكنني
احاول ان اعرض ذلك
من وجهة نظر شعرية، مخرجون آخرون قد يحققون افلاماً أكثر واقعية،
وأنا
احترم ذلك، لكنها ليست طريقتي في رؤية الاشياء.
الفيلم ليس كراسة
ايديولوجية جافة بل استجابة شعرية، مجازية،
الى قلق المرحلة، الصبي
اليتيم، على سبيل المثال، ليس لاجئاً فحسب،
بل انعكاس لشباب البطل »الكسندر«
نفسه، وهو ملاك الموت الذي يقوده عبر متاهة متشابكة من الماضي
والحاضر، متيحاً
له التوصل الى تفاهم مع حقيقة ان مهنته غالباً ما امضت به
الى اهمال عائلته.
منذ فترة قريبة، نشر الكاتب الاسباني خورخي سيمبرون
كتاباً بعنوان »ان
تعيش او ان تكتب« عندما اكون في البيت، تقول لي
ابنتي معاتبة: »نعم،
نعرف ذلك، سوف تغادرنا غداً من جديد، لسبب أو
لآخر، ونحن لا نراك أبداً«، عندئذ اكتشف فجأة أنها كبرت،
صارت امرأة،
وانني قصرت في ادراك او اكتشاف أمور معينة معها، تلك اللحظات المفقودة هي
الثمن الذي ندفعه من أجل ان نخلق شيئاً،
وهذا يشعرني بالحزن. كل مرة
احقق فيها فيلماً، أقول لنفسي ربما تكون المرة الأخيرة، لكن ذلك يشبه كا
يحدث لرجلين عجوزين
يجلسان في مقهى، الوقت ربيع، وهما يشاهدان العالم
يمر أمامهما، خصوصاً النساء الجميلات، انهما يشاهدان امرأة تسير مبتعدة،
وأحدهما يسأل الآخر:
الى متى سوف نجلس هنا ونشاهد فحسب؟ فيجيبه الآخر: »حتى
النهاية«.. هذا يشبه موقفي في السينما. كل افلامي هي جزء مني
وتعبير عن سيرتي الذاتية وعن حياتي، والتجارب التي عشتها والأحلام التي
حلمت بها، بعض افلامي
هي اقرب الى اهتماماتي الفكرية، والأخرى أقرب الى
احداث في حياتي
الواقعية. »الأبد ويوم واحد« ليس أكثر افلامي
اتصالاً
بالسيرة الذاتية، لكن اكثرها شخصية، وذلك لأنني عبرت هنا عن مشاعري
أكثر
مما عبرت عن افكاري، ربما يكون المظهر المتصل بالسيرة الذاتية أكثر جلاءً
وبروزاً لأن كل افلامي الأخيرة تتعامل مع فنانين،
والأزمات التي يمرون بها
في تحقيق العملية الابداعية، واستطيع القول ان كل ما حققته بعد
»الاسكندر
الاعظم« يدخل في خانة السيرة الذاتية الى مدى معين، في
الواقع، استطيع ان
اقسم الافلام الستة التي حققتها منذ ذلك الى ثلاثيتين منفصلتين. »رحلة الى
كيثيرا« يمثل صمت التاريخ،
»مربي النحل« يمثل صمت الحب، و»منظر في
السديم« يمثل صمت الخالق، في »منظر في
السديم« يسأل الولد الصغير اخته: »ما
معنى التخوم؟« في الافلام الثلاثة التالية حاولت ان اعثر على اجابة على
هذا السؤال. »خطوة اللقلق المعلقة«
يتعامل مع التخوم الجغرافية التي تفصل
البلدان والبشر. »تحديقة
يوليسيس« يتحدث عن تخوم الرؤية الانسانية. »الابد
ويوم واحد« يبحث في
التخوم بين الحياة والموت. يجب
ان اعترف بأنني لم
اكمل قط اي شيء بالطريقة التي اردت ان اكملها كان ثمة دائما عوائق فيزيائية
وعاطفية حالت دون بلوغي
حالة من الرضا والاقتناع الكلي، ومن وجهة نظر ظاهرية،
عندما يقول الكسندر
»انا نادم لانني لم اكمل قط اي شيء«،
فانه يريد
ان يبدو ذلك الانسان الذي لا يكمل شيئا قط،
لكن حين يباشر النظر داخل
نفسه، يكتشف بان طموحاته كانت دائما اكبر من النتائج التي احرزها، واستطيع
ان
اقول الشيء ذاته عني. احتاج الى رؤية عيون الآخرين.
فقط في نظرة المتفرج
ادرك ما صنعت بدون تلك النظرة لا اعرف ان كان ما فعلت جيدا ام سيئا، لا
اعرف ان
كنت قد استطعت التعبير عما كان يجول في مخيلتي.
اظن ان الافلام التي سببت
لي خيبة معينة هي تلك التي حققتها وانا واثق من نفسي
تماما. اعتقد انك
كلما كنت واثقا من عملك في البداية، تكون اكثر قابلية لخيانة نفسك.
في
فيلمي »مربي النحل« يقرر البطل انه سيوف يموت في »الابد ويوم واحد«
يأمل الكسندر في
ايجاد الجسر الذي سوف يتيح له ان يتخطى الموت. وذلك
الجسر، كما يعتقد، يتمثل في الكلمات التي سوف تبقيه حيا، سواء كف جسديا
عن الوجود ام لا. الآن وقد بلغت هذا العمر،
اعتقد من الضروري ان ابدأ في
تكريس بعض الاهتمام بالموت من اجل اعادة اكتشاف الحياة،
من اجل رؤية الحياة في
ضوء جديد، واعيا لضرورة التصالح مع فكرة الموت. لست مبشرا ولا اريد ان اعلم
الناس »اني احاول ان اجد طريقا من الهيولية الى الضوء. نحن نعيش في
ازمنة
مضطربة حيث غياب القيم حالة من الانقباض والكآبة ترافق التشوش والارتباك
لكن
الاسئلة التي يطرحها الناس على انفسهم لا تزال هي
ذاتها: من اين جئت، الى
اين انا ذاهب؟.. اسئلة عن الحياة والموت الحب والصداقة والشباب والشيخوخة،
انا
متشائم ومتفائل، على حد سواء بشأن قدراتنا على ايجاد مخارج من اضطراب زمننا
لكنني، عميقا اتمنى ان
يتعلم الناس من جديد كيف يحلمون، لا شيء اكثر حقيقة
من احلامنا. انك تحقق فيلما لكي
تفهم بوضوح ما هو غامض في وعيك.
عندما
اتحد عن حياتي فانه يتعين علي ان اتحدث عن حياتي في الافلام حياتي
الثابتة توجد اثناء تحقيق الفيلم.
انها الحياة الموازية. فوكيز قال ذات مرة
بأن العالم مخلوق ليصبح فيلما.
يسألني اليونانيون المرة تلو الاخرى: اين تقع
هذه المناظر الطبيعية التي
اصورها؟ في اي مدينة يونانية توجد هذه المواقع؟
في الحقيقة، هذه المناظر غير موجودة.. مع ان بعض المناطق حقيقية لقد تجولت
كثيرا عبر اليونان وفي هذه الرحلات اكتشفت عناصر سحرتني:
منزل، شارع، تل،
قرية. كنت اجمع كل هذه العناصر المستقلة معا واركبها في
ما يشبه الكولاج،
احيانا تتناغم الالوان معا، واحيانا الاشكال بطريقة ما،
اقوم بخلق الصور
مثلما يفعل الرسام. هكذا اسلط رؤيتي على الكانفاس. انا لا ازعم بأني
ارسم
الواقع، انما اخلق رؤيتي الخاصة التي اسقطها على الواقع.
النتيجة هي شيء
ما في الوسط. السؤال الي اطرحه على نفسي طوال الوقت هو: كيف بإمكاني
ان
احول تجاربي الشخصية الى شعر؟ الرحلات تحدث تغييرات، تحولات،
تحث على
المعرفة. يتعين عليك ان تعرف نفسك على نحو افضل عندما اسافر فاني اسافر عبر
عالمي الداخلي، دافعي الى السفر ايضا يعبر عن رغبتي في
العودة الى
الوطن ثانية. في اليونان اشعر مثل الغريب الذي لا
يزال يبحث عن وطنه
الخاص. كان هذا الشعور يتملكني دائما،
ولا اعرف السبب كنت اعبر التخوم داخل
نفسي، المرة تلو الاخرى والسؤال لا يزال حاضرا،
كم تخما علي ان اعبر قبل ان
اصل الى غايتي؟.. ومع انني اشعر بالغربة في اليونان، الا انني
لا
استطيع ان اغادر هذه البلد.. قد ينتابني
الشعور ذاته في اي مكان آخر.
ابطال افلامي الاخيرة هم من المنفيين،
اما بالمعنى الحقيقي او الوجودي
للمنفي الداخلي ،الوطن بالنسبة لي هو المكان الذي نشعر فيه بالتوازن داخل
انفسنا وبين ذواتنا والعالم والاحساس باننا وجدنا اخيرا مكانا
نكون فيه مطمئنين
ومتحررين من القلق.. ذلك هو ما تبحث عنه الشخصيات في
افلامي الاخيرة.
حريدة الأيام
في 16 يناير 2004