في الاسبوع الماضي تحدثنا عن فيلم
الكسندر سوكوروف «المبنى الروسي
Russian Ark » وهنا نترجم حديثا للمخرج عن
الفيلم وعن امور اخرى، نقلا عن مجلة
Sight & Sound
عدد ابريل ٣٠٠٢
.
عندما نتحدث عن متحف هرميتاج فاننا، على نحو محتوم،
نتحدث عن الافراد الذين
عاشوا في هذا المكان. لا شك ان هناك اتصالا رومانسيا بهؤلاء الافراد،
وانا
افضل الرومانسية على البحث العدواني في شيء لا استطيع الوصول إليه أو الاقتراب
منه.. اعني حيواتهم الخاصة. ان اسى المشاهد الختامية متصل بواقع ان جميع
هؤلاء الافراد (من عائلة القيصر رومانوف) سوف يلقون حتفهم اغتيالا.
وينبغي
ان تنتبه الى حقيقة ان من سوف يقتلهم هم من مواطني بلدهم.
وبما انهم سيصبحون
ضحايا، فيتعين علينا ان نوجه تحية تقدير واجلال إلى ذكراهم.
لست قاضيا، انا
اقدم فيلما يبحث في التعارضات العاطفية. لقد سبق ان حكم الله عليهم هو الذي
حكم عليهم بموت أليم وليس من وظيفة الفن ان
يحاكم. الله والتاريخ يضعان كل
شخص في مقامه الخاص.
ما الذي استطيع ان اقوله عندما اذهب إلى متحف
هرميتاج لأصور »المبنى الروسي« وارى رمبرانت والجريكو واقفين ورائي؟
يجب ان
اتذكر دائما بأنني مجرد مخرج سينمائي، وليس هناك أي تقليد من الفن في
السينما.
من سنكون لولا المتاحف؟ المتاحف لا تحفظ الماضي
فقط، انها
تحفظ المستقبل لو اننا لا نبدأ بتقدير منجزات الحضارة الاوروبية اليوم فسوف
نفقدها
غدا.
اردت، في هذا الفيلم ان افسح المجال لتدفق الزمن وجريانه.
ان
اعيش تلك الدقائق التسعين كما لو كنت اتنفس فحسب..
شهيق وزفير. تلك كانت المهمة
الفنية الوحيدة.
ليس ثمة ماضي أو مستقبل في التاريخ، تماما مثلما
ليس ثمة اي ماض أو مستقبل في الفن.. هناك الحاضر فحسب.
لا اظن ان
التفاصيل التقنية ذات اهمية للمتفرجين. ليس ثمة ما هو استثنائي
في ذلك،
ولا ينبغي للتفاصيل التقنية ان تلفت الانتباه.
كنت شغوفا بالادب منذ
الصغر، وكنت مولعا ايضا بالدراما الاذاعية. اذكر ذلك الاداء العظيم،
في تلك
الدراما، والذي يقدمه ممثلون كبار كنت اغمض عيني ثم اشيد عالمي
المتخيل
داخل العمل الدرامي. لم اتخيل ابدا انني سوف اصبح مخرجا، في
عائلتي، لم
تكن لأحد من افرادها علاقة مباشرة بالفن. لم
يشتغل احدهم بالفن لقد ولدت في
قرية صغيرة في سيبيريا، والتي
لم تعد موجودة.. فقد شيدوا هناك محطة طاقة
تعمل على توليد الكهرباء من الطاقة المائية، وبالنتيجة دفنت قريتي
الصغيرة تحت
الماء. وإذا رغبت الآن في زيارة المكان الذي ولدت فيه،
فيتعين علي ان
استأجر قاربا واذهب إلى حيث المياه وانظر إلى قطاع البحر.
كنت دائما اشعر
بأن الانتقال إلى الاخراج وتحقيق الافلام هو طريق طويل جدا، ولم احسب ابدا
انني
سأكون قادرا على اجتيازه. بوجه عام، لكي
تصبح فنانا يتعين عليك ان تحصل
على التربية الاساسية، هكذا كنت افكر ولهذا السبب كان منطقيا بالنسبة لي
ان
اتخرج حاملا شهادة في التاريخ إلتحقت بأكاديمية الفيلم بموسكو في قسم الاخراج.
تعلمت الكثير من العالم الحقيقي المحيط بي
تعلمت احيانا من اناس لا
علاقة لهم بالفن على الاطلاق هم مجرد افراد عطوفين، صادقين، كرماء وثمة
جوانب
جميلة فيهم لكن من اهم المعالم بالطبع هو تشيخوف.
اغلب الاشياء التي
افعلها تأتي من خلال الحدس ابدا لم ألتق بأي شخص ساعدني
على تنمية نفسي
وقيمي الروحية.
الفن هو العمل الشاق الذي تؤديه روحك ان تاريخ روح
الفنان تاريخ حزين هذا انه عمل شاق جدا،
وبغيض احيانا.
في كل افلامي
احاول فحسب ان اخلق نوعا مغايرا من الحياة الواقعية، مختلفا عن ذلك الذي
يوجد
هذا ينطبق حتى على اعمالي الوثائقية.
انا لا اتعامل مع الفيلم
الدرامي والفيلم الوثائقي على نحو مختلف الفارق الوحيد الذي
اراه بين
الدرامي والوثائقي هو ان الفنان يستخدم ادوات ووسائل مختلفة لخلق صورة ما،
أو لنقل، لبناء بيت ما في الدراما،
يستخدم المخرج قوالب حجرية أكبر حجما في
البناء في الاعمال الوثائقية، البيت عادة ذو بناء شبيه بالزجاج،
شفاف وهش
أكثر.
أنا لا احاول ان احقق الاعمال الوثائقية بوصفها نموذجا واقعيا من الفن
لست مهتما بالصدق الواقعي
ولا اظن انني قادر على فهم الواقع جيدا.
انا
لا اصور لوحة مادية للطبيعة، بل اخلقها، اني
اهدم الطبيعة الواقعية واخلق
طبيعتي الخاصة.
اني انطلق من المشاعر، واظن ان ما يثير اهتمامي
دوما هو فقط تلك المشاعر التي
لا يستطيع اختبارها إلا الشخص الروحاني: مشاعر
الفراق والانفصال اظن ان دراما الموت هي
دراما الانفصال.
الفيلم ليس
وسيلة للاتصال، بل حياة اخرى.. حياة تتألف امام اعين الناس.
كمخرج،
لدي على الدوام رؤية واضحة عن ما اخلقه، عادة انا اغير كثيرا الاساس الادبي
اضافة الى السيناريو في مرحلة الانتاج احيانا، حتى معنى حوار معين
يمكن ان
يتغير تماما.. ومعه يتغير معنى المشهد.. اني احاول ان اخلق واعيد الخلق
المرة تلو الاخرى.
من المهم ان تكون باستمرار في حالة حركة. الفيلم الفعلي
يمكن ان يبدو ساكنا تماما،
لكن الطاقة الموظفة في تحقيق الفيلم ينبغي
ان
تكون ديناميكية جدا.
انا لا اعطي الجمهور الفرصة للتعود على اسلوب معين
خاص بي نحن نحاول بفعالية ان نحقق افلامنا على نحو مختلف في
كل مرة، لهذا
السبب هي تصبح مختلفة عن بعضها البعض.
الصور بمثابة الساحتين، والصوت
بمثابة الروح على الصوت ان ينطلق بذاته ومثل العشب في
الحقل، عليه ان ينمو
لوحده في فيلمي »الام والابن« استخدمت الصوت حسب نظام دولبي لكنني
لم
احبه لأنه تجاري
كان علينا ان نقاوم التقنيين لأنهم كانوا دائما يريدون من
الصوت ان يكون أكثر علوا،
في حين كنت اريد الصوت أكثر خفوقا. الصوت جزء هام
جدا في عملي.
احاول ان انظم عملي بحيث يكون الفيلم عملا على مستويين. لذا
فان فيلمي »الأم والابن«
هو فيلمان مختلفان جدا. احدهما بصري، والآخر صوتي
وينبغي ان
يكونا قادرين على الوجود منفصلين عن بعضهما. وإذا اصغيت إلى الصوت
فلابد ان يكون كافيا بذاته.
ولدت ونشأت، اضافة إلى اكتساب هويتي
الذاتية، في ظل نظام شمولي استبدادي بالنسبة لأفراد ذوي
شخصية وخلفية
سيكولوجية، كان هذا يعني ان تبدأ بملاحظة الواقع والاشياء بجدية تامة.
كنت
على الدوام اقرأ الكلاسيكيات الروسية، التي
كان لها تأثير هائل في وقتها لم
استمع ابدا إلى البيتلز أو أي موسيقى معاصرة غير روسية كنت متأثرا بفاجنر
وسكارلوتي. ذلك كان شأني وكنت اركز أكثر على الاشياء الجادة.
حتى
عندما لا تحصل على تفسير كامل من السلطات، فان بامكانك ان تقرأ بين السطور
المشاكل التي واجهتها مع المؤسسات السينمائية الحكومية لم تكن مبنية على
ارضية
سياسية، إذ اكن مهتما باستجواب ومساءلة النظام السوفيتي،
وبالتالي لم اقلق
نفسي بنقده كنت دائما مدفوعا بجماليات بصرية، جمالية مرتبطة بروحانية الانسان
والتي تقرر قيما اخلاقية معينة. واقع انني كنت مستغرقا في
الجانب البصري
من الفن جعل السلطات تميل إلى الريبة طبيعة افلامي
كانت مختلفة عن افلام
الآخرين. وهم رجال السلطة لم يعرفوا حقا لأي سبب
يعاقبونني، وذلك التشوش
سبب لهم سخطا كبيرا بالطبع هذا جعل الامور اكثر صعوبة بالنسبة لي، لكن ايضا
اكثر
سهولة عندما ألتفت الآن إلى الوراء ادرك كم كان الامر متناقضا ظاهريا من
جهة،
الافلام التي حققتها منعت من العرض على الجمهور ومن جهة أخرى،
كانت افكاري
الجديدة مقبولة دائما، اظن انها مفارقة اي نظام شمولي.
حريدة الأيام
في 21 نوفمبر 2004