أسئلة موحدة وجهتها المجلة
السينمائية الفصلية
cineaste
إلى عدد من النقاد البارزين في امريكا، وقد
جاءت اجاباتهم - التي
سوف تنشر هنا تباعا بعضا منها - على النحو
التالي:
***
ديفيد أنسن (نيوزويك)
ذات مرة، قال الناقد الأدبي
هاري ليفن بأنه لكي تقوم بتشريح شيء ما (وكان يتحدث عن إحدى مسرحيات
شكسبير) يتعين عليك ان تقتله أولا..
أنا لا اتفق معه ولا اقره في ذلك.
أحد
تحديات كتابة النقد السينمائي هو أن تبقي المريض حيا فيما تجري
له العملية:
انك ترغب في ان تحافظ على القلب النابض - والأجزاء الداخلية
غير المرتبة
والمتسمة بالفوضى - للشيء ذاته.
ربما يدفعون لي المال مقابل انجازي
هذه المهمة، لكنني سوف لن افقد الاحساس بنفسي كناقد هاو. لكن هناك ما هو
أكثر من مجرد النظرة الذاتية.
الناقد السينمائي هو، جزئيا،
مرآة.. مرآة
تخاطب ما تعكسه، مرآة تكونت واكتسبت المعرفة بفعل كل الصور التي
مرت
امامها.
قد ينظر إلينا القراء ورؤساء التحرير بوصفنا أدلاء ومرشدين للمستهلك
فحسب، غير انني
لازلت اعتقد بأن اتصالنا بالفن يأخذنا عميقا نحو ذواتنا،
وبامكانه ان يساعدنا في
رؤية العمل الفني بأعين أكثر صفاء وحدة.
وعلى
النقيض مما يراه خصومنا فان النقاد (أو على الأقل أولئك الذين اهتم بقراءتهم)
ليسوا فنانين مصابين بالخيبة والاحباط ويسعون عبر النقد والبحث عن الاخطاء
إلى
تمزيق الفن قطعة قطعة لمجرد انهم
يفتقرون إلى المقدرة على صنعه أو تحقيقه بأنفسهم
نحن على الارجح نكون محبطين، وعشاقا مشوشين على نحو جامح،
في ملاحقة مستمرة
للشيء الذي من اجله نستطيع ان نفقد افئدتنا. عين مركزة على موضع رغبتنا،
متلهفين من أجل ان يغوينا، والعين الأخرى تحاكم بفتور ورباطة جأش نوعية
وشروط
الأغواء.
المقالات النقدية الملفتة والبارزة (وأنا اتكلم هنا كقارئ)
هي
تلك المكتوبة بشكل جيد. عندما قرأت مقالة بولين كايل عن الفيلم الفرنسي
»هيروشيما
حبي«، شعرت بالسخط من موقفها السلبي من الفيلم ومحاولة الحط من
قدره. كنت آنذاك في
الرابعة عشرة من عمري، وقد ادركت لحظتها بأن هذه الناقدة
هي التي
سأكون مجبرا على الجدال مع آرائها. انه النقد الذي
تعلمت منه،
تجادلت معه، ولم انسه أبدا. النقد الملفت هو الذي
يفتح ابوابا في ذهنك،
ويسحب بساطا من الرأي المسلم به من تحت قدميك،
ويقدم بيئة خصبة لأفكارك الخاصة
كي تنشط وتتفاعل. إنه امر مساعد بالطبع (واقول هذا كناقد)
ان يكون هناك
فيلم ملفت (سواء أكان جيدا أم سيئا) تشعر بضرورة الكتابة عنه..
فيلم تستطيع
ان تغرز اسنانك فيه. ومع ان الاعمال التي تخلو من أي قيمة فنية
(والتي
جمهورها لا يكترث بما يعتقده أي ناقد) قد تجعلك تشعر بشيء من الثمالة،
إلا انك على الدوام تأمل ان تجد شيئا يدور داخل أو وراء الفيلم الذي
تكتب عنه
والذي يحتمل التأمل، ويمكن ان يشحن بطارياتك الذهنية.
العلاقة بين
النقاد وصناعة السينما اليوم، أكثر من اي وقت مضى،
هي منكفئة، لا متوازنة
ويعوزها الانسجام. هوليوود تملك كل القوة والنفوذ، حتى انها تتملقك بالاقتباس
من نقدك وتوظيف ذلك في
ترويج افلامها عبر الاعلانات، وغالبا ما
يكون الاقتباس
أو الاستشهاد خاطئا.
ليس مهما ما يقوله أي شخص عن فيلم مثل »مهمة
مستحيلة - الجزء الثاني«، فنجاحه الساحق كان متوقعا ومحتوما على نحو مخيف.
لقد نجحت شركة بارامونت في
تسويق سلعة شعرت الأمة بأنها مجبرة على مشاهدتها،
ولا تسألني لماذا.
ان نفوذ الناقد الحقيقية في هوليوود لا يتصل
بالتأثير في الارباح بل في
تحقيق السمعة والمكانة. الغرور، وليس المال،
هو الذي يوجه صناعة الفيلم ليس بامكان المرء ان
يغالي في تقدير الذوات
المتورمة، ذوات صانعي الافلام ومدراء الاستوديو، أو إلى اي
مدى هم
يحتاجون إلى السينما ليشعروا بالسعادة والرضا عن انفسهم صباح كل يوم. ليس
هناك
ما هو أكثر كشفا وفضحا من نوبة الاستهجان والاستنكار التي عبر عنها المخرج جيمس
كاميرون على صفحات لوس انجليس تايمز للثأر من هجوم الناقد كين
توران على فيلمه »تيتانيك«.
العالم بأسره وقع في غرام فيلمه، وغمرته الاموال وجوائز
الاوسكار، لكن واقعاً
ان الناقد رأى بأن فيلمه سئ قد افقده صوابه، وطالب
الجريدة بأن تقدم له رأس الناقد على طبق.
لقد اراد منهم ان يفصلوه عن
العمل.
علاقتنا بالافلام الاجنبية والمستقلة هي حكاية أخرى بافتقارهم إلى
الملايين من الدولارات لأجل التسويق،
فان الموزعين الصغار يحتاجون الى مقالات
نقدية مفيدة لتسويق افلامهم. ان نقدا قاسيا من نيويورك تايمز لفيلم اجنبي
فني
وغير تجاري كفيل ليس بقتل الفيلم في نيويورك فحسب بل قد يعني
ايضا ان
الفيلم سوف لن يعرض ابدا في أي مكان آخر في الولايات المتحدة.. كمثال،
احتاج فيلم الفرنسي ليو كاراكس »عشاق على الجسر«
سنوات حتى يعرض في
نيويورك بعد ان هاجمه الناقد فنسنت كانبي بعنف وضراوة عن عرضه الاول في
مهرجان
نيويورك السينمائي.
في الجريدة أو المجلة الاسبوعية، العقبة الكبرى هي
المساحة، الحيز المتاح للكتابة النقدية في
السنوات العشرين الماضية شاهدنا
الصور تكبر وتأخذ حيزا كبيرا بينما النص يزداد صغرا.
ثمة افلام رائعة لم استطع
ان اكتب عنها وذلك ببساطة بسبب عدم توفر الحيز في
المجلة ذلك الاسبوع. الانباء
الهامة والعاجلة التي تصل في الدقائق الأخيرة يمكن ان تسلب ثلاثة اعمدة من
مقالتك، وعندئذ لن تكون ناقدا بل مجرد دليل أو مرشد
استهلاكي.
إحدى الخدمات
الجليلة التي يستطيع الناقد ان يقدمها هو ان يوجه الجمهور نحو افضل الافلام
الجديدة واكثرها جدة وإثارة. لقد كان هذا هو دور الصحافة،
لكن حدث الآن تحول
عميق في الثقافة. اغلب رؤساء التحرير اليوم هم أكثر اهتماما بجعل قرائهم
يلجؤُون الى لعبة التخمين.
اي فيلم سيكون الأكثر تحقيقا لايرادات عالية أو
تحطيما للأرقام القياسية؟ وسائل الاعلام تريد ان تكون الى جانب الفائزين.
المجلات
والجرائد تفكر مثل مدراء الاستوديو بالضبط: الفيلم الذي
يبيع التذاكر يبيع
المجلات أيضا، وفي هذه العملية، تتنازل الصحافة أكثر فأكثر عن سلطتها
ونفوذها
لترتب الاجندة،
وتقوم بمهمة المرشد »السياحي، وتسلط الضوء القوي على ما
تعتبره الأكثر جدارة بالاهتمام والذي - حسب التكهنات
- سيكون الأكثر شعبية
ورواجا. في تغطية الفنون، الرتابة تحكم: كل شخص
يلهث وراء القصص ذاتها،
الافلام ذاتها، النجوم ذاتها.. لكتابة لمحة مختصرة.
ونحن النقاد لدينا
اعتقتاد فطري بالأولويات الجمالية، لذلك فاننا نسبح ضد التيار.
الحقيقة
المؤلمة: ان الثقافة، في هذه الأيام، لا تشعر بالحاجة إلى نقد حقيقي،
النقاد الآن هم اشبه بفرقة مشجعين أو مشاغبين مفسدين للمتعة. لكن بعيدا عن
التذمر والشكوى، فان النقد عمل عظيم. إنني، رغم كل شيء،
أؤمن بما
افعله.
حريدة
الأيام
في 19 سبتمبر 2004