فيلم «البيانو» هو عن أداء
(هولي
هنتر)، المرأة التي تصل الى شواطئ نيوزيلندة لتتزوج من رجل لم تلتق
به من قبل ولم تره أبداً.
وهي لا تأتي وحدها بل تحمل معها صمتاً لا أحد
يعرف سببه، وابنة صغيرة،
وآلة بيانو تكنّ لها كل الولع. وعندما يقع
البيانو في يد الجار القوي فإنه يستخدم ذلك كوسيلة للتقرب منها والإتصال
بها.
إنها رحلة نحو تحقيق الذات عبر طاقة الجسد. كتبتها..
وحققتها للسينما
المخرجة جين كامبيون، والتي نترجم لها حديثها عن الفيلم
(المنشور في
Cinema papers،
عدد مايو 1991م.
*
كتبت السيناريو عبر فترة طويلة، خمس سنوات
تقريباً، لكن على نحو
غير متصل بسبب اشتغالي بمشاريع أخرى. المرحلة الأولى
من كتابة السيناريو كانت،
ببساطة تامة، تجميعاً للفكرة معاً وصيرورتها في
حالة معينة. لقد أردت أن أكتب قصة مختلفة تماماً عن الأفلام القصيرة التي
كنت أحققها في معهد السينما والتي
كانت عبارة عن أجزاء ذات خاصية
معينة.
كنت بالأخص مأخوذة بالطريقة التي تمكن بها شعب الماوري
من التكيّف
مع الملابس الأوروبية في توافق مع ملابسهم الخاصة، وهذا أصبح مجازاً
تصويرياً لفهمهم لعملية أوروبية الشعب..
السكان الأصليين.
من هنا، فإن
القصة الفعلية حدثت من خلال الزي السائد المركب، النتيجة هي
أنني أردت أن
أروي قصته حول شيء ما، ذلك الشيء هو البيانو،
والذي سوف يجلب كل الشخصيات
معاً والذي سوف يصبح التقنية المركزية التي منها تتطور القصة.
أردت
للبيانو أن يكون مهماً بما يكفي لحمل الكثير من المعنى للشخصيات.
* آخر المؤثرات القوية والفعالة،
والذي كان المؤثر الطويل الأمد، هو حبي
لأدب القرن التاسع عشر، خصوصاً رواية إميلي
برونتي »مرتفعات
ويذرنج«.
إنها قصيدة قوية جداً عن غرام الروح،
وهي تنفذ الى العصب
الأساسي والقوي عند العديد من الناس.
هي كانت تتصل بالموقع الطبيعي
لقبائل »المور«، السكان الأصليين، هذا الموقع الذي زرته قبل بضع سنوات،
وتنزهت في الأماكن ذاتها التي
مشت فيها حتى الموضع الذي أطلقت عليه اسم
مرتفعات ويذرنج.
في الواقع، لقد جوبهت هذه الرواية بالكثير من التوبيخ
النقدي الى حد أن إميلي برونتي قد تفاجأت من ردة الفعل هذه وتوقفت عن
الكتابة.
كنت أشعر بإثارة إزاء نوع من الشغف والحساسية الرومانسية التي كانت
تتحدث عنها كاتبات مثل إميلي. وأعتقد أن ذلك ينتقل بلا جهد الى الموضع الذي
هيأت فيه قصتي.. في الخمسينيات من القرن التاسع عشر في نيوزيلندا.
أشعر
بأنني مدينة بدين كبير لروح إميلي برونتي.
وربما ليس هي فقط. لكن أيضاً
الشاعرة إميلي دكنسون لأسباب أخرى. بطريقة ما، ديكنسون عاشت حياة منعزلة
وكتومة جداً. وشخصيتي
الرئيسية، أدا تفعل الشيء نفسه.. إنها كتومة، ليس
لأنها تخلو الى نفسها في
غرفة، لكن لأنها ترفض الكلام.. لقد اكتشفت أن قراءة
قصائد إميلي ديكنسون هي
مثيرة للمشاعر ومحركة جداً.. مع أني
لا أقرأ الشعر
كثيراً. إني معجبة جداً بريكنسون وبرونتي، وبالحساسية التي تتسم بها
أعمالهما ووعيهما بالعالم.
كلتاهما كانتا متوحدتين ومنعزلتين، وقد احتفظتا
بحساسيتما لنفسيهما.
من بعض النواحي، أشعر أنني مشعوذة بعض الشيء وأستطيع أن
أعيش في العالم بسعادة بالغة لأنني إجتماعية،
محبة للإختلاط بالآخرين. وأنا
أستفيد من نتاج جهدهما واستغل ذلك في
شكل أكثر شعبية ورواجاً ومقبولية.
وأحياناً أشعر بالذنب لأنني أعتقد بأنني أستخدم ذلك استخداما محرفاً
لحكمتهما الصافية النقية.
* في
أدا خلقت المخرجة جين كامبيون هذه الشخصية
النسوية الكتومة والمتمردة في عالم لا تنسجم معه لكن
يتعين عليها أن تقرر
اختيارها بشأن العيش في العالم الخارجي. ثمة سور هائل بين رغبتها في
أن تكون
تماماً وراء متناول النظام الاجتماعي والعيش وراء نطاق الحياة وبين رغبتها في
أن تكون في العالم.
*
إن أدا مختلفة قليلاً، بالنسبة لي، عن ديكنسون
وبرونتي. هناك الكثير من السبل المختلفة لرؤيتها. كنت دائما أراها بوصفها فردا
نأت بنفسها على نحو فعال عن الحياة. لقد اختارت ألا تتكلم أبداً،
ولايبدو السبب
واضحاً تماماً وراء هذا القرار أو هذا الاختيار، بل ويتضح أنها هي
نفسها لا
تستطيع أن تتذكر السبب.
من جهة أخرى، ليس هناك أي أحساس عنها ككائنة
معاقة، بل هي التي تبدو كما لو أنها تتعامل مع العالم بوصفه معاقاً.
في
الوقت نفسه، ثمة مقدار هائل من المعاناة والمكابدة الناشئة عن
هذا الوضع. إنه
الانسحاب عن الكثير مما يقدمه العالم، والذي
أتصور أنه، بالنسبة الى نساء
ذلك الزمن، لن ينظرن الى تلك الأشياء على أنها دنيوية ومضجرة جداً.. وفي
الواقع، لا تطاق. ثمة امتياز في اعتزالها، لكن هناك أيضاً
ضرر كبير في
تلك العزلة.
* لقد رأيت في
أدا وابنتها، فلورا، الطريقة التي ربما
بها كانت النساء تضفي طابعاً دراماتيكياً على حياتهن. في ما يتصل
بالنمط السائد، أدا وفلورا تعبران درامياً عن نفسيهما. هويتهما واحساسهما
بالشرف هو متطرف جداً
الى حد أنهما مستعدتان للموت في سبيل ذلك..
خصوصاً
أدا.
أدا هي التي تسعى الى الكمال الى حد أنها عندما يتعرض البيانو
للهجوم بفأس، أو
يفقد مفتاحاً، فإنها تعتبر البيانو شيئاً ناقصاً وفيه
عيب أو شائبة. وعندما تفقد هي
إصبعاً، ولا تستطيع أن تعزف على البيانو كما
كانت ترغب، فإنها تجد صعوبة شديدة في أن تتخيل نفسها وهي تواصل العيش في
هذه الأوضاع والحالات،
وأن تعاني أيضاً من الوحشية التي اختبرتها. إنه
حقاً قرار صعب بالنسبة لها أن تعرف ما اذا هي
تريد حقاً أن تواصل.
* ربما الشيء الأخير الذي
كتبته هو المشهد الذي يدور في الزورق الطويل.
لقد
كتبته في ليلة واحدة في الساعة الثانية صباحاً.
كانت فكرة حسنة أن نجعل
البيانو يسقط في المياه وهي تتبعه غائصة في البحر. ظننت أن المشهد
يتصف بنوع من الاستقامة الشعرية، ولم استطع أن أفكر في
طريقة أفضل لإنهاء
الفيلم.. قبل مشهد الخاتمة.
* لو أجلب منظور القرن العشرين الى القصة،
فسوف لن أجلب أي شيء آخر. إنه أساسي تماما أن نحاول فهم حريات الحاضر..
ليس فقط الحريات لكن الأسئلة التي هي
حقيقية بالنسبة لنا الآن. محاولة خلق
استبصارات جديدة للناس اليوم حين نشاهد الآخرين في وضع
يدور في منتصف القرن
التاسع عشر. الأمر الذي سحرني أولاً هو كيف أن الناس، بدون أي تربية أو
ثقافة بشأن طبيعة الرومانس والإنجذاب،
كانوا يتفاعلون مع الوضع الخام. لكن ما
هي حقاً طبيعة الإنجذاب؟ كيف ينشأ وينمو؟ كيف يتطور؟ كيف
يصبح مثيراً
للشهوة الجنسية؟ كيف يصبح شهوانياً؟ كيف يتجاوزنا ويسمو فوقنا ويصبح شيئا
روحانيا أكثر؟.
أيضاً، لأن لدينا حالة من المثلث الغرامي في
هذه القصة،
فإن ثمة مفاهيم قوية عن الغيرة بالنسبة للرجال.. والنساء ربما..
إنه أمر غير
عادي أن تجعل امرأة تسبر طاقتها الجنسية بدون أي
نوع من الإرتباط الرومانسي
أو الخاصية الوجدانية، وأن يكن على نحو وجيز،
كما في هذا الفيلم.
* أحد الأمور التي
استمتعت بها حقاً أثناء تصوير الفيلم هو مدى التحدي
الذي
شعرت به، والى أي حد أظهر الفنيون من الكفاءة ما يتناسب مع أهمية الحدث في
كل جبهة: في
تصميم المناظر، تصميم الأزياء، التصوير والإنتاج.
كان هناك
في الواقع جو عظيم من الرغبة في أن تكون الأمور جيدة قدر المستطاع.
وبدون هذا
التعاون الخلاق ما كان بالإمكان تحقيق هذا العمل على النحو الذي أردته
الفيلم.
هو حقاً نتاج جهود كل شخص. عندما شاهدت العمل،
لم أر نفسي بل رأيت
الفيلم.
* عادة لا تكون لدي
علاقة مريحة وسلسة جداً مع العمل بعد
الإنتهاء من إنجازه، بل أشعر بنوع من الرفض الطبيعي.
ربما هي وسيلة للتحرك
الى الأمام. أحب العمل أثناء الاشتغال عليه، أستمتع به حتى لو كانت هناك مشاكل
وأزمات. لكن ما إن أبدأ في مشاهدته بعد الإنتهاء منه حتى
يتكون لدي إحساس
بالانفصال أو رد فعل مفاجئ.
* العمل في
هذا الفيلم كشف لي الرغبة في
العمل على مادة أكثر صقلاً. الحوار في
هذ القصة أساسي الى حد بعيد بسبب
طبيعة النص. فيلم »البيانو«
هو أيضاً المرة الأولى التي فيها تسنح لنا
الفرصة لاستخدام الكثير من المعدات المعززة في
تحقيق الأفلام.. هذا جعلني
أشعر بثقة أكبر في قدرتي على استخدام اللغة السينمائية. بوسعي
أن أكون
سينمائياً قدر ما أريد وألهو بأسلوبي الخاص حين أرغب في اللهو.
ذلك ممتع.
التحدي الخاص لهذا الفيلم كان أن أجرب طريقة تصوير قصة »خاصيات ملحمية دون
أن أنتمي الى عالم ديفيد لين،
بل أظل أملك هويتي الخاصة، وأنا أملك أيضاً
خاصية ملحمية أنثوية والإعادة خلقها بحيث لا تبدو الملحمية
وكأنها متصلة فقط
بأفلام ذات مظهر فخم.
حريدة
الأيام
في 22 أغسطس 2004