حين يطري النقاد المحترفون عملي، أشعر في
معظم الاحيان بعدم الرضا عن افكارهم وملاحظاتهم النقدية، وغالباً ما يتكون
لدي
احساس بأن هؤلاء النقاد لا يكترثون بعملي او ليسوا مؤهلين
للنقد، انهم يستخدمون
تعبيرات مستهلكة وشائعة منتزعة من المجلات السينمائية الرائجة بدلاً من
التحدث عن
تأثير الفيلم المباشر والحميمي على الجمهور، مع ذلك، فإنني التقي بأفراد مارس
فيلمي
تأثيراً عليهم، او اتلقى منهم رسائل تبدو اشبه باعترافات خاصة وحميمية، عندئذ
أفهم
لماذا ولمن أحقق افلامي، واصبح مدركاً لمهمتي: الاحساس بالواجب
والمسئولية تجاه
الناس.
أمنيتي الاكثر انقادا كانت دائماً ان اكون قادراً
على التعبير عن رأيي
بحرية في افلامي، ان اقول كل شيء بصدق تام ودون ان افرض وجهة نظري على
الآخرين.
لكن اذا وجدت رؤية الفيلم للعالم قبولاً عند
الآخرين بوصفها جزءاً من
رؤيتهم، من ذواتهم، فأي دافع أفضل من هذا يمكن ان يجده المرء لعمله.
السينما
تملك سلطة داخلية تركز داخل الصورة وتعبر الى الجمهور في شكل
مشاعر، محدثة توتر في
استجابة مباشرة الى المنطق السردي للمؤلف.
المنهج الذي بواسطته يرغم الفنان
الجمهور على ان يبني من الأجزاء المنفصلة وحدة كاملة، وان يفكر ابعد مما هو
مقرر
له، هذا المنهج هو الوحيد الذي يضع الجمهور في مستوى متكافئ مع
الفنان في ادراكه
للفيلم، وعبر الاحترام المتبادل فقط يمكن ان يكون ذلك النوع من التبادل
جديراً
بالممارسة الفنية.
لماذا يوجد الفن؟ من يحتاجه؟ وهل يحتاجه أحد
بالفعل؟ هذه
أسئلة لا يطرحها الشاعر فحسب، بل ايضاً اي فرد يقدر الفن ويدرك قيمته، وحتى »المستهلك«، وفق التعبير الشائع الدال على
العلاقة المعاصرة بين الفن
وجمهوره.
من الواضح تماماً ان غاية الفنون كافة »الا اذا
كانت بالطبع موجهة الى
المستهلك مثل اية سلعة صالحة للبيع« هي ان تفسر للفنان نفسه، ولأولئك
المحيطين به،
معنى وجوده وما يعيش الانسان لأجله ودفاعاً عنه.
الاتصال هو الوظيفة الرئيسية
للفن نظراً لان الفهم المشترك يمثل قوة قادرة على توحيد الناس، وروح المشاركة
هي
واحدة من اكثر المظاهر أهمية في الابداع الفني.
الأعمال الفنية، بخلاف الأعمال
العلمية، لا تملك اهدافاً عملية بأي حس مادي، الفن لغة سامية تساعد الناس على
تحقيق
الاتصال فيما بينهم، وتفصح عن معلومات بشأن ذواتهم، كما تساعدهم على استيعاب
او
تمثل تجارب الاخرين.
لا استطيع ان اصدق بأن الفنان يعمل بقصد »التعبير
عن الذات«
فقط، فمثل هذا التعبير يصبح بلا معنى ما لم يلق استجابة من الآخرين، ان خلق
رباط
روحي مع الآخرين عملية موجعة ولا تحقق ربحاً عملياً لأنها،
جوهرياً، فعل تضحية،
لكنها يقيناً لا يمكن ان تكون جديرة بالمحاولة اذا كان القصد فقط ان يستمع
المرء
الى صداه الخاص.
لا يمكن للشخص ان يكون حساساً وسريع التأثر بالفن
الا حين يكون
راغباً وقادراً على الثقة بالفنان وعلى تصديقه، لكن كم هو شاق وموجع احياناً
عبور
عتبه اللا فهم الذي يفصلنا عن الصورة الشعرية.
أعتقد ان احد المظاهر الاكثر
اثارة لأسى في زمننا هو التدمير الشامل، في وعي الناس، لكل ما ينسجم مع الحس
الواعي
بالجمال، الثقافة الجماهيرية المعاصرة، الموجهة الى
»المستهلك«، حضارة الجراحة
الترقيعية، تشل ارواح الناس وتقيم حواجز بين الانسان والاسئلة الحاسمة بشأن
وجوده
ووعيه بذاته ككائن روحي.
الفرد، عندما تحرك مشاعره رائعة فنية، فإنه يسمع
في
داخله نداء الحقيقة ذاته الذي حث الفنان على تحقيق الفعل الخلاق، حين يتأسس
الرابط
بين العمل والمتلقي، فان هذا الاخير يختبر صدمة كبيرة ومطهرة،
ضمن تلك الهالة التي
توحد الروائع الفنية والجمهور، نبدأ في التعرف على الجوانب الافضل من انفسنا،
والتي نتمنى لها ان تحرر، في تلك اللحظات نحن نتعرف على انفسنا ونكتشفها،
نكتشف أعماق
الكامن فينا والتي لا يسبر غورها، وتلك المراكز الأبعد من احاسيسنا.
غالباً ما
يعتقد بأن دلالة العمل الفني سوف تكون جلية عن طريق احداث
اتصال مباشر بينه وبين
المجتمع، قد يكون هذا صحيحاً من الوجهة العامة لكن التناقض الظاهري يكمن في
ان
العمل الفني يصبح معتمداً كلياً على أولئك الذين يتلقونه، أولئك القادرين على
الاحساس به، بتلك الخيوط التي تربط بين العمل والعالم ككل
أولاً، وبين العمل والذات
الانسانية في علاقتها بالواقع ثانياً.
»غوتة« كان محق تماماً حين قال بأن »مشقة
قراءة كتاب جيد تضاهي مشقة كتابته«، وانه ليس من المفيد ان تصور ان وجهة نظر
المرء
وتقييمه الخاص يتخذ صفة الموضوعية، من خلال تنويع التأويلات
الشخصية فقد ينشأ نوع
من التقييم الموضوعي نسبياً.
من اجل ادراك واضح، غير غائم، يتعين عليك ان تمتلك
قدرة استثنائية على اصدار حكم مبتكر، مستقل، وبريء بوجه عام، الناس، يبحثون
عن
أمثلة مألوفة ونماذج اولية لتأكيد وتعزيز رأيهم، والعمل الفني تتحدد أهميته
وقيمته
وفق، او بالتماثل مع، طموحاتهم الخاصة او مواقفهم الشخصية، من جهة أخرى، في
تعددية
الاحكام الصادرة عليه، العمل الفني بدوره يتبنى حياة خاصة به
هي متحولة ومتعددة
الأوجه، ووجوده يتعزز ويزداد رحابة.
انت لا اتستطيع ان تلحق بالفنان في لعبته
الخاصة، وان تصوغ له اهدافه وغاياته الاساسية فقد كتب أوفيد: »الفن يتألف مما
هو
غير ملحوظ او غير مرئي« وصرح انجلز بأن: »كلما كانت اراء
المؤلف متوارية ومخفية،
كان ذلك افضل للعمل الفني«.
في رسالة كتبها جوجول الى الشاعر والمترجم
زوكوفسكي
في يناير ٨٤٨١، قال: »ليست مهمتي ان اعظ، والفن، على أية حال، عظة دينية،
مهمتي
ان اعبر بالصور الحية لا بالبراهين والجدل، يجب ان اظهر الوجه
الكامل للحياة، لا
اناقش الحياة«.
كم هو صحيح هذا، والا فأن الفنان يفرض افكاره على
جمهوره، ومن
يزعم ان الفنان أكثر ذكاءً من الجمهور في صالة السينما، او من القارئ الذي
يحمل
كتاباً، او من المتفرج في المسرح؟
الشاعر ببساطة يفكر بواسطة الصور، وهو بخلاف
الجمهور، يستطيع ان يعبر بالصور عن رؤيته للعالم، ومن الجلي بأن الفن لا
يستطيع ان
يعلم أحداً اي شيء، فمنذ اربعة آلاف سنة لم يتعلم البشر شيئاً
على الاطلاق، كنا
سنصبح ملائكة منذ زمن طويل لو كانت لدينا القابلية للاهتمام بتجربة الفن،
والسماح
لأنفسنا بأن نتغير وفقاً للمُثل العليا التي يعبر عنها، الفن يمتلك القدرة،
عبر
الصدمة والتطهير، على جعل النفس الانسانية منفتحة على الخير،
من السخف الاعتقاد
بإمكانية تعليم الناس كيف يكونون أخياراً وصالحين، الفن يستطيع فقط ان يمنح
الغذاء -الصدمة- للتجربة النفسية والعقلية.
حريدة
الأيام
في 27 يونيو 2004