كنت ذات يوم في عداد الجيل الثاني
من النقاد السينمائيين العرب وذلك حين بدأت الكتابة في
أواخر الستّينات وكنت لا زلت في العام السادس عشر من عمري.
على أساس
أن الجيل الأول هو جيل الراحل سمير نصري
وسمير فريد والمرحوم العزيز فتحي فرج وآخرين لم يعد الرابط بين من بقي
منهم وبيني قائماً.
لكني أميل إلى إعتبار أن ذلك الجيل الأول
(أي الذي بدأ الكتابة في مطلع الستينات) كان الثاني عملياً.
إليكم بعض
الأفكار في هذا الإتجاه.
ذات يوم في مرحلة مبكرة من بداية كتابتي
في السينما وجدت على مكتبي في صحيفة «المحرر» الذي كتبت فيها لأكثر من
عامين ونصف ثم تركتها ثم عدت إليها لفترة وجيزة قبل أن أهاجر من لبنان
بأسره، مجلّدات تعود الى مطلع الستّينات، أي نحو سبع سنوات من عام التحاقي
به في تلك الصحيفة.
أيامها
كانت صدرت «المحرر» مرّتين.
مرّة في
أوائل الستّينات ثم توقّفت لفترة وجيزة قبل أن تعود في
«حلّة جديدة» كما يقولون وبقوّة جعلتها ثاني الجرائد المقروءة في لبنان
والأولى على الخط التقدمي والقومي.
بدأت أفتح صفحات الأعداد الغابرة لأتوقف بعد قليل على مقالة
نقدية سينمائية.
قرأتها وأعجبت بها لدرجة أني بدأت أبحث في الأعداد الأخرى عن كتابات أخرى
لهذا الناقد،
وجدتها.
كان مداوم
الكتابة في السينما لكني لم أسمع به من قبل ولم يتداوله متحدّثون من حولي.
كان يكتب
جيّداً وبإلمام-
لكن من يكون؟
للأسف الشديد لم أحتفظ بإسمه،
او لعّلي حفظت أسمه لفترة ثم نسيته.
لكنه كان،
لجانب الأستاذ فريد جبر، الذي كان ناقداً إذاعياً، من أوّل من كتب النقد
السينمائي قبل كل الأخوة اللبنانيين، قبل سمير نصري ووليد شميط وغيرهما،
وقبل عدد كبير من كتّاب النقد السينمائي
في باقي الوطن العربي.
لكن هل الجيل هو بضع سنوات إختلاف بين مجموعة وأخرى؟ قيل لي
ذات مرّة أن الجيل هو نحو ثلاثين سنة متكاملة.
كل
ثلاثين سنة هو جيل وبذلك أكون من ذات الجيل ويكون سمير نصري ووليد شميط من
ذات جيل الناقد المجهول الذي كنت قرأت له.
لكن تحديد
بداية ونهاية جيل ما صعب وعليها أن تحظى بالحقائق وبرضى المعنيين ومعظمهم
يريد أن يخفي سنوات حياته حتى لا يُقال أنه كَبُر في العمر.
والأرجح
أن الأجيال يمكن تقسيمها أيضاً الى سنوات أقل.
كل عشر
سنوات او أقل أو أكثر.
طبعاً الجيل ليس شُلّة والعالم العربي
عرف أجيالا من النقاد، وأشباه النقّاد، وشللاَ كثيرة.
لقد وُلدت
نقدياً لأجد نفسي أواجه شلّة مترابطة أي جديد على الساحة لن يكون مقبولاً
بالنسبة لها.
حوربت؟
نعم حوربت وبضراوة لدرجة استعداء أطراف الحقول السينمائية من منتجين
ومخرجين وموزّعين وإعلاميين، وبل بلغ الأمر الى كتاب مرسل إليّ من قبل وزير
الإعلام ذات مرّة يحذّرني من «المغالطات» ورسالة تهديد «قولوا لمحمد رُضا
إنه إذا ما داس أي من صالاتي سأقطع ساقيه» كما قال صاحب سلسلة من الصالات
لصديق أسمه سمير حصني (يعمل الآن في إحدى جامعات الولايات المتحدة وكان
يكتب ويساعد في مجلة »فيلم« التي تولّيت رئاسة تحريرها في العام 1973 حين
أصدرها جورج شمشوم.
جاءني من يهدّدني قائلاً بأن كاتب إمبريالي.
وجاءني من ينتقد أنني أكتب عن السينمات الأوروبية الشرقية بكثير من
التعاطف،
وذلك الذي وجد أنني عدو للسينما العربية
(ولاحقاً عدو للسينما المصرية).
وكان الكثير منه بتحريض من تلك الشلّة التي تبددّت مع انطلاقة الحرب اللبنانية التي
كانت البداية الحقيقية لكل الحروب الصامتة والناطقة التي نخوضها اليوم في
مختلف الدول العربية.
لكن شلّة انقضت،
وأنا الآن صديق لمن بقي
من اللبنانيين على
قيد الحياة، وأخرى ظهرت في موجة جديدة تطوّرت في
أواخر الثمانينات وأرتقت وقويت شوكتها في أواخر ومطلع التسعينات وهي أيضاً
حاولت عزلي.
حين قضى
رضوان الكاشف، رحمه الله، كتب رئيسها إنه كان ينأى بنفسه عن الحديث إليه
لأنه كان صديقاً
لبعض الصحافيين الذين لا
يكن لهم
-اي
ذلك الكاتب-
التقدير.
أهذا ما تجود به القريحة حين العزاء؟
لكن أين هي هذه الشلّة الآن؟
أيضاَ تبدّدت وبعض أعداء الأمس هم أصدقاء اليوم أيضاً.
المُفاد أن الشلل تأتي
وتذهب وهي داء إجتماعي وثقافي بغيض منتشر من قبل اولئك الذين يعتقدون أنهم
يصلون إلى أعلى مفارز الحياة حينما يعملون كخلية.
وللعمل على هذا الأساس يجب أن تكون هناك عوامل مجتمعة او مشتركة،
مثل أن يكون أعضاء الشلّة على قدر متجانس من كره الغير او على النحو ذاته
من الفهم صوب السينما او بالدرجة نفسها من الإعتزاز بالنفس بحيث تأتي تلك النفس قبل السينما ذاتها.
هذه الشُللية هي
إحدى أهم الأسباب التي
تحول ضد نجاح المهنة النقدية السينمائية في العالم العربي ونجاح دورها
الثقافي.
أصحابها
يشوّشون على القاريء فينصرف عن الجميع معاً في معظم الأحيان.
وعوض أن
يفكّر البعض منهم كيف يرتقي بمادته وبخدمته النقدية الى الجمهور ويطوّر سبل
التواصل بينه وبين جمهوره، يقضي الوقت في لعبة شد الحبل بينه وبين الآخرين.
وأراهن على أنه إذا ما تنادى البعض منّا لإنشاء جمعية لنقاد
السينما فشلت الجمعية من قبل أن تبدأ.
أولاً ستفشل في تحديد من هو الناقد وما هية النقد.
ستفشل بالتالي في الإجماع على المنتسبين وهل يحق لهم الإنضمام او لا،
وستفشل في توزيع المهام.
كل واحد
سيريد أن يكون رئيساً الخ...
صرت أؤمن أن النقد هو التالي:
❊
قضية حياة فردية لرجل يعيش وحده في عالم السينما.
❊
قضية إيمان مطلق بأن السينما بعد الله والوطن هي كل شيء في الحياة.
❊
قضية فهم عميق لمعاني الحياة ومحاولة إيجاد إنعكاسات لتلك المعاني في
الأفلام.
❊
قضية ثقافية بالتأكيد عليها أن تشترك مع باقي الأوجه والكتابات والنشاطات
الثقافية
❊
قضية حب للحياة وبحث عن قيمتها وقيمها
❊
إبداع في بلورة كل ذلك في مقالات تهدف لمنح القاريء الرأي والمعلومات.
❊
وسيط بين الشاشة وبين الجمهور وهو، واحد من هذا الجمهور بذلك النقد هو وسيط
الناقد بدوره.
❊
إبداع على السينمائيين الآخرين إعتباره من لبنة العمل السينمائي بل أشد
إتصالاً به من مهن أخرى في ذلك العمل.
أخيراً، ومع كامل إدراكي بأن ذلك الكاتب المجهول ما عاد متفاعلاً مع
السينما كما كان ذات يوم، هذا إذا كان لا يزال حيّاً، ومع إدراكي أن كلماتي
هذه غالباً لن تصله، أطلب عذره إذ نسيت أسمه وكنت أنوي أن أحييه كناقد
مجهول فُرض عليه التعتيم ومر في سماء الكتابة النقدية من دون أن يحيي ذكره
أحد.
سينماتك
في 1 سبتمبر 2007