ما الذي يدفع بالبعض، حين الكتابة عن فيلم معيّن،
للإبحار في كل إتجاه بعيداً عن الفيلم ذاته قبل الوصول إليه؟
قرأت مؤخراً مقالة حول أحد أفلام الراحل عاطف الطيّب تستحق
الإهتمام،
لكن الكاتب صرف نحو ربع المقالة، إن لم يكن ثلثها، في تمهيد تناول فيه
السينما الواقعية الإيطالية ثم حال السينما المصرية عارجاً فيه على أفلام
محمد خان وداوود عبد السيد وخيري بشارة وبعض سواهم قبل
أن يصل الى عاطف الطيّب ومن بعد الى فيلمه المعني.
لماذا؟
هناك عدّة إحتمالات:
١) إما أن
الكاتب يقبض على الكلمة.
٢) إما أن
الكاتب لا يكتب كثيراً ويستغل الفرصة لكي يبرهن على أشياء كثيرة من بينها
إلمامه التاريخي.
٣) يُحتمل
أن يكون الكاتب لا زال متأثّراً بالمدرسة الثانوية التي تخرّج منها حيث
كانت الطريقة الإنشائية تنص على فكرة وكيفية محصها والتوسّع فيها.
٤) او أن
الحاجة النفسية تدعوه للتأكيد لقرائه إنه ناقد سينمائي
جيّد يفهم في السينما قبل وبعد وعلى جانبي
الموضوع المُثار.
لكن الكاتب، ومهما كان الدافع (او الدوافع) حرم نفسه من حسنات الكتابة في
الفيلم الذي إختاره وخفف من تسليط الضوء على ذلك الفيلم كما على تناوله هو
له (وهو تناول ليس خفيفاً
وفيه عدّة أفكار وعناصر بحث مهمّة).
الكتابة حول الموضوع ثم الدلف إليه أمر ملحوظ في
الكثير من الكتابات السينمائية. الحال ليست وليدة ظاهرة جديدة،
بل تعود الى سنوات بعيدة.
الفيلم عن البحر، فيكتب لك الكاتب دراسة لعلها تفيد البحّارة او تشرح البحر
لمن لم يره بعد. الفيلم عن شارل ديغول، فينطلق الكاتب في بحث حياة الرئيس
الفرنسي
وكيف ظهر وكيف وصل وكيف مارس حكمه وما هي
أهم مزاياه وصولاً الى كيف مات. وربما لم يجد مانعاً تحليل سياستيه
الداخلية والخارجية والحكم له او عليه.
لكن حتّى لو كانت المعلومات صحيحة،
وحتى ولو أن الكاتب قرأ الكثير من الكتب حول الشخصية (وهو
لن يعترف بذلك بل سيكتب كما لو أن شارل ديغول كان صديقه وأطلعه على كل شيء)
فإن عمل الناقد ليس الخروج عن الفيلم بوصف البحر والشجر والأنهر والحياة
والعالم والرئيس ديغول والجنرال ماكارثر، بل عمله يقتضي دخول الفيلم
والفيلم فقط. حدوده هي مطلع الفيلم من أول ثانية في اللقطة الأولى وحتى
الثانية الأخيرة من آخر لقطة.
يستطيع داخل هذه المساحة التحدّث عن شارل ديغول،
لكن فقط إذا ما تحدّث عنه الفيلم، وفقط في حدود ما يتحدّث عنه الفيلم
بمعنى: إذا ما أورد
الفيلم مشهدا لشارل ديغول
يعلن فيه إستقلال الجزائر، ووجد الناقد أن لديه ما يلاحظه (او ينتقده سلباً
أو إيجاباً) على ذلك المشهد حينها فقط يمكن له أن يتحدّث فيه إنما في حدود
معطيات الصورة وليس خارجها واصفاً فترة الإستعمار الفرنسي
ومستعيراً كل تلك العبارات المدينة له الى آخر التأليف الذي لا يمت الى الفيلم بصلة.
هذا رأي خاص لا ألزم به أحداً،
وربما استطاع بعض زملائي كتابته على نحو أكثر دبلوماسيّة- لكن الحقيقة هي
الحقيقة. ما يشابهها او يختلف عنها ليس سوى ظلالات لها وهي تتدرّج حتى تصبح
بعيدة العلاقة بها تماماً.
ألفرد هيتشكوك كان
يرى أن لا شيء يجب أن يعترض المسافة بين عيني
المشاهد والمشهد الماثل. لا التصوير ولا الإخراج ولا المونتاج ولا حتى
القصّة او التمثيل.
نفس الشيء يجب أن يُطبّق وصولاً الى نقد سينمائي
صحيح: دعونا من الإنشاء ومحاولة إثبات معرفة الكاتب الموسوعية
ولنتخصص بالفيلم فناً
وتقنية وموضوعاً وعناصر تكوينية.
سينماتك
في 29 يونيو 2007