هذا الناقد يعترف بأنه يهرب من الحياة الى الأفلام.
حين كان صغيراً فعل ذلك، وحين أصبح شاباً فعل ذلك واليوم يفعل ذلك أكثر من
أي وقت مضى. ولديه أسباباً منطقية. أولاً، هناك عدد من الزملاء الذين
يعتبرونه غير مثقّف سياسياً وبالتالي هو مجرّد سحابة لا تمطر الا كتابات
سينمائية محدّدة المواصفات.
رجل يتحدّث في الفن ولا ينفذ منه الى الحديث عن السياسة التي
تعصف بنا يمنة ويسرة.
ثانياً، أنني فعلاً
أكره السياسة وأعتقد أننا -كعرب- أُقحمنا فيها من دون خاطر. او في الأفضل
الحالات، كان لنا فيها ناقة وجمل الى حين حكمنا على أنفسنا بأننا مربوطين
الى قوانين أقوى من الحكمة والمصلحة العامّة. قوانين مثل الجلوس كل على
كرسيه محافظاً على ما يعرفه، لأنه -وحسب المثل اللبناني- أحسن مما تتعرّف
عليه.
كراسي لا تترك مجالاً
للتغيّر والتقدّم والتآخي
والإصلاح والتغلّب على المخاوف وفتح القلوب والحدود والعقول. كل ما تفعله هو أن تجعل السياسة الوحيدة المعترف بها
والمعمول بها والمقبول بها هي
سياسة أبقاء الحال كما هو عليه.
مع وضع كهذا، وحال كالتي وصلنا إليها بربّك هل أُلام إذا ما
رفضت أن
أعمل كما
يعمل غيري فيتحدّث في السياسة وينظّر في
كل شيء ويبرهن على أنه خبير في
كل شيء. لا أقول أن ما يفعله البعض منّا صحيح او خطأ، لكني أقول أن من
يختار، مثلي، التخصص في السينما له حسنات في الآخرة لا تُحصى... يكفي إنه
لم ينتم الى حزب ولا أضر الناس بآرائه (او أضر بنفسه أيضاً).
لكن المسألة ليست أني
لا أعرف ما يدور من حولي. لا أفهمه او لا أكترث له. بل أعرف وأفهم وأكترث.
كل ما في الأمر هو أنني، وكما قال الشاعر الأميركي روبرت فروست، أخترت
الطريق الذي مشى فيه أناس أقل. طريقي درب غير مباشر، لذلك يبدو طويلاً. فيه
أكتب عن الأفلام لكي أشارك في نشر الثقافة. إذا ما انتشرت الثقافة أزداد
عدد المطّلعين وإذا ما ازداد عدد المطّلعين، إزداد عدد الأذكياء، وإذا
إزداد عدد الأذكياء إزداد عدد
العلماء والموهوبين وإذا إزداد عدد العلماء والموهوبين
إزداد التقدّم والنمو والتطوّر وهذا سيمحي
الجهل والتقوقع والطائفية والمذهبية والعدمية وكل سياسة سلبية يمارسها اليوم مجرمو الحرب الجدد.
طريقي طويل وليس مضموناً،
لكنه أفضل من الطريق المباشر الذي
هو أيضاً ليس مضموناً. ما يجعل طريقي قابلاً للإيجاز والوصول أسرع مما
يتبدّى الآن، هو إذا ما التفّ مخلصون آخرون ومشوا في هذا الطريق. جعلوه
سالكاً ذهاباً وإياباً. زرعوا فيه شجرة تاركوفسكي في «التضحية» وآمنوا
بأنهم لا يقلّون فعلاً عن كل اولئك الذين
يعارضون من يدفع الناس الى عصر ظلمات بإسم دين بريء من أفعالهم
وتحت مظلّة الدفاع عن هذه القضية او تلك. من كثرة دفاعهم أصبحت القضايا في
أسوأ حالها. تبدو فلسطين أبعد عن أن تتحرر. بل أبعد مما كان الوضع عليه سنة
1967.
أما وقد «فشّيت غليني» الآن وقلت بعض ما في
بالي، أعود الى عالمي سعيداً. أضع فيلماً لآخر الليل عبارة عن فيلم جيّد
خفيف. سياسياً نظيف. فيلم بعنوان
The Tall T
.
وليعيب عليّ البعض أنني أكتب فقط في السينما. أفضل أن أكتب في إختصاصي وفي
عالمي الذي أحيا فيه. عالمي بات الحقيقة. العالم الذي أتنفّس فيه ثاني
أكسيد الكربون المؤلف من الرياء والكذب والمصلحة والهمجية والجهل هو العالم
الذي لا أريده. وعلى قول الكوميدي
غروشو ماركس: «لا أريد الإنضمام الى نادي
يقبل بي عضواً».
سينماتك
في 15 يونيو 2007