في البداية، كنت أظن أن الأنوار
تنطفئ في صالة السينما حتى يكون بمقدورنا، نحن الجمهور، أن نشاهد الصور
المتحركة على الشاشة بشكل أفضل. بعدئذ، وأنا أنظر عن كثب وبتمعّن في
الأفراد وهم يستقرّون في مقاعدهم بارتياح واسترخاء، فهمت أن هناك سبباً
أكثر أهمية لانطفاء الأنوار: الظلام في الصالة كان يتيح لكل متفرج أن يعزل
نفسه عن الآخرين ويكون وحيداً.. أي يكون مع الآخرين وبعيداً عنهم في الوقت
ذاته.
* * * *
عندما نكشف عالم الفيلم لأفراد من
الجمهور، فإن كلاً منهم يتعلّم أن يخلق عالمه الخاص من خلال غزارة وثراء
تجربتهم الخاصة.
* * * *
كصانع أفلام، أنا أعتمد على هذا
التدخّل الخلّاق وإلا، من نواح أخرى، سوف ينقرض الفيلم والجمهور معاً.
القصص الكاملة، التي لا نقيصة ولا عيب فيها، والتي تقدّم نفسها على نحو
مثالي، تعاني من خلل رئيسي واحد: هي تعمل على نحو جيد بحيث لا تتيح للمتفرج
أن يتدخّل.
* * * *
الأفلام التي لا تتضمن قصةً ما، لا
تكون رائجة جداً عند الجمهور.. هذه حقيقة. مع ذلك، فالقصة أيضاً
تحتاج إلى فجوات، ثغرات، مساحات خالية كالتي نجدها في أحجيّة الكلمات
المتقاطعة.. الفراغات التي ينبغي على الجمهور أن يملأها، أن يضيف إليها
التفاصيل الضرورية، أو أن يكتشفها.. كما يفعل التحري الخاص في الأفلام
البوليسية.
* * * *
أنا أؤمن بذاك النموذج من السينما
والذي يمنح جمهوره احتمالات أكبر ومتسعاً من الوقت. إنها السينما المتحققة
جزئياً، السينما الناقصة التي تحرز اكتمالها عبر الروح الخلّاقة عند
الجمهور، والتي تفضي إلى مئات من الأفلام. إنها سينما تنتسب إلى أفراد من
ذلك الجمهور وتنسجم مع عالمهم.
* * * *
عالم كل عمل، كل فيلم، يطرح حقيقة
جديدة. في الصالة المظلمة، نحن نمنح كل شخص الفرصة لأن يحلم وأن يعبّر عن
حلمه بحريّة. إذا بوسع الفن أن ينجح في تغيير الأشياء واقتراح أفكار جديدة،
فسوف لن يتمكن من تحقيق ذلك إلا بواسطة الطاقة الإبداعية الخلّاقة عند
الجمهور الذي نحن نخاطبه ونتوجه إليه.. كل فرد من الجمهور.
* * * *
بين العالم المختلق والخيالي للفنان،
وعالم الشخص الذي يخاطبه، هناك ميثاق وطيد ودائم. الفن يتيح للفرد أن يخلق
حقيقته وفقاً لأمنياته ومعاييره. الفن أيضاً يتيح له أن يرفض الحقائق
المفروضة الأخرى. الفن يمنح كل فنان وجمهوره الفرصة لامتلاك رؤية دقيقة
أكثر للحقيقة المحجوبة وراء الألم والأسى الذي يكابده أو يختبره الأفراد
العاديون كل يوم.
إن التزام صانع الفيلم بمحاولة تغيير
الحياة اليومية لا يمكن أن يصل إلى التحقّق إلا من خلال مشاركة الجمهور.
والجمهور لا يكون نشطاً وفعالاً إلا إذا خلق الفيلم عالماً مليئاً
بالتناقضات والتعارضات التي باستطاعة هذا الجمهور وعيها وإدراكها.
* * * *
الصيغة بسيطة: ثمة عالم نعتبره
حقيقياً لكنه غير عادل كلياً. هذا العالم ليس ثمرة عقولنا ولا يناسبنا أو
يرضينا جميعاً بالدرجة ذاتها لكن، عبر التقنيات السينمائية، نحن نخلق
عالماً والذي هو حقيقي وعادل أكثر بمائة مرّة من العالم المحيط بنا. هذا لا
يعني أن عالمنا يقدّم صورة زائفة للعدالة بل، على العكس تماماً، هو على نحو
أفضل يلقي ضوءاً قوياً على التباينات القائمة بين عالمنا المثالي والعالم
الواقعي. في هذا العالم نحن نتحدث عن الأمل، الأسى، والشغف.
* * * *
السينما هي نافذة تطل على أحلامنا
والتي من خلالها نتعرّف على أنفسنا على نحو أيسر. بفضل المعرفة والشغف
المكتسب، نحن نحوّل الحياة وفقاً لمدى استفادتها من أحلامنا.
* * * *
المقعد في صالة السينما ذو عونٍ أكبر
من أريكة المحلّل النفساني. بالجلوس على مقاعدنا في الصالة نكون متروكين مع
وسائلنا الخاصة، وهذا المكان ربما هو المكان الوحيد الذي نكون مقيدين إليه
بإحكام وفي الوقت نفسه نكون متباعدين بعضنا عن بعض: وتلك هي معجزة السينما.
في القرن التالي للسينما، سيكون
احترام الجمهور، كعنصر بنّاء ومتقّد الذهن، أمراً حتمياً يتعذّر اجتنابه.
لإحراز هذا، ربما يتوجّب على المرء أن يبتعد عن الفكرة العامة التي ترى إلى
الجمهور بوصفه الحاكم المطلق. يجب على المخرج أيضاً أن يكون واحداً من
جمهور فيلمه.
* * * *
لمائة عام، كانت السينما تنتسب إلى
صانع الفيلم. دعونا نأمل أن يحين الوقت لنا لكي نشرك الجمهور في قرنها
الثاني.
* * * *
(كتب عباس كيارستمي هذا النص بمناسبة
الذكرى المئوية للسينما.. في باريس، 1995)
|