بعد الحرب العالمية الثانية، وفي
مرحلة الحرب الباردة في الخمسينيات بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي،
انتشرت موجة من أفلام الرعب الفضائي التي تعرض التهديد المحتمل وضرورة
مواجهة الخطر القادم من العالم الآخر. كانت هذه الموجة انعكاساً مباشراً
للهواجس والمخاوف من التهديد الشيوعي والمؤامرة المتخيلة التي تبغي القضاء
على الأمة وتحويلها إلى مستعمرة، حيث يجسّد سكان الفضاء الأشرار الخطر
الشيوعي.. من هذه الأفلام: يا أهل المريخ أرحلوا عنا (1950)، الشيء (1951)،
حرب العوالم (1953)، غزاة من المريخ (1953)، الوحش الآلي (1953)، الكتلة
الجيلاتينية (1958). كانت هذه الأفلام، وعشرات غيرها، تُظهر المخلوقات في
صورة بشعة، منفرة، مؤذية. أحياناً يكون غزوها مباشراً وصريحاً، أحياناً
يكون مموّهاً ومخادعاً، كأن ينتحل المخلوق، أو الشيء الفضائي، العقل والجسد
البشري، حيث يتحوّل ويتناسخ في أشكال بشرية، بحيث لا يبدو مختلفاً في
المظهر والسلوك، ويصعب تحديد الفوارق والتخوم بين البشر والغرباء. في فيلم
''غزو ناهشو الجسد''
Invasion of the Body Snatchers
(1956)
لا ينشأ الرعب من كون الآخر مرئياً في صورة
مختلفة، بل على العكس تماماً، الرعب ينشأ بسبب كونه لا مرئياً في حقيقته،
ولتماثله الخارجي مع الإنسان وقابليته لمحاكاة الشكل الإنساني بدقة شديدة،
لذلك يستحيل تحديد هوية البشري والغريب الذي جاء ليغزو الإقليم الإنساني
ويدمّر حضارته، وليستعمر الجسد الإنساني تمهيداً لاستعمار العالم الأرضي.
في الغالب لا تكون دوافع الغزو واضحة، ولا يحقق الغزاة سوى انتصارات محدودة
ومؤقتة. التركيبة الأساسية والمتكررة في قصص هذه الأفلام: حدوث ظواهر غريبة
وحالات اختفاء أو قتل لبضعة أشخاص، اكتشاف السر، المناقشات الحامية بين
العلماء الذين يحاولون دراسة الظاهرة والعساكر الذين يرون ضرورة مواجهة
الخطر، وفي النهاية تحدث المواجهة المحتومة وينتصر البشر. تجدر الإشارة إلى
أن هذه الأفلام لم تكن تعبّر جميعها عن البارانويا والهستيريا الجماعية
إزاء التهديد الشيوعي، بل يمكن تأويل بعضها كتحذيرات موجهة ضد الامتثالية
وفقدان الإرادة، حيث كانت تعكس القلق والتوجس إزاء الحملة المكارثية في
الخمسينيات ضد اليساريين والمتعاطفين مع اليسار، وما فرضته هذه الحملة من
إرهاب وإذلال. أفلام الرعب الفضائي في الخمسينيات لم تكن في جوهرها إلا
امتداداً لثيمة الوحش الأرضي الذي يهدد البشرية، حيث التطابق في أنماط
الحبكة والبناء والشخصيات مع اختلافات شكلية تتعلق بهوية المخلوق ومظهره
وطبيعته. وبخلاف أفلام الخيال العلمي، فقد كانت هذه الأفلام تفتقر إلى
الخيال والتفكير المستقبلي. قليلة هي الأفلام
-
في تلك الفترة
-
التي عرضت صورة مناقضة لما هو سائد، حيث يأتي الفضائي كزائر
طيب ومسالم يدعو إلى السلام ويحذر من عواقب الحماقات التي يرتكبها البشر..
كما في فيلم ''اليوم الذي ثبتت فيه الأرض'' (1951). لكن منذ الستينيات،
ومع حدوث انفراج في العلاقات الدولية، تغيرت صورة المخلوق الفضائي البغيضة
ولم يعد مهدداً. منذ السبعينيات وحتى الآن شاهدنا أفلاماً متفرقة عن هذه
المخلوقات لكن في صورة مرعبة مرة أخرى، بعضها إعادة تصوير لأفلام قديمة
بمؤثرات متطورة وميزانيات كبيرة، وأخرى ذات موضوعات مبتكرة.. وهي جميعها
تهدف إلى إرعاب المشاهدين دون أن تحمل دلالات وغايات دافعة إلى التأمل. ؟
؟ ؟ الخوف الدائم من الموت وما بعد الموت قوي وفعال، وكان ملازماً للإنسان
منذ بداية الخليقة. وقديماً كان هناك اعتقاد بفكرة عودة الأموات للانتقام
من الأحياء بواسطة قوى خارقة للطبيعة تدخل أجساد الموتى فتحييها. ولقد
استثمرت قصص وأفلام الرعب هذا الخوف في إنتاج عدد كبير من الأعمال التي
تتناول ظاهرة الأموات الأحياء عبر أشكال مختلفة: المومياء (حارس القبور
الفرعونية الذي ينتقم من أي منتهك ومدنّس)،مصاصو الدماء، الزومبي (الموتى
الأحياء)، شعائر السحر الأسود. مصاص الدماء غالباً ما ينتمي إلى
الأرستقراطية، يمتلك جاذبية وقدرة فذّة على الإغواء، وهو يلجأ إلى الحيلة
ويتصرف بدهاء في الإيقاع بضحيته. أما الزومبي فينتمي إلى طبقات مختلفة،
مظهره منفر ومقزّز، حركاته آلية وبطيئة، يتصرف بحماقة وعلى نحو أخرق. إنه
كائن متوحش، شره، يقتات من اللحم البشري. الزومبي في أفلام الرعب القديمة
كانوا كائنات غير ضارة أو مؤذية، ولم يكن سلوكهم مرعباً. لكن تغيرت صورة
الزومبي واتخذت مظهراً مرعباً للغاية، عندما قدّم جورج روميرو فيلمه ''ليلة
الأموات الأحياء'' (1968) الذي صار من كلاسيكيات هذا النوع. أهمية الفيلم
تكمن في أسلوبه القريب من الوثائقية، في جوّه الكابوسي ومضمونه الهجائي، في
اختراقه للقواعد المعروفة في سينما الرعب حيث لا ينتصر الخير ولا يصل
أبطاله إلى النهاية السعيدة. ويرجع روميرو سبب انبعاث الموتى إلى تسرّب
الإشعاع الذرّي. منذ هذا الفيلم صار الزومبي مرتبطاً بالكانيبالية (أكل
لحوم البشر).. فالأموات يخرجون من قبورهم جائعين ليفترسوا الكائنات الحية،
ولا يمكن إيقافهم إلا بتفجير أدمغتهم بالرصاص. وقد قدّم روميرو جزءاً
ثانياً من الفيلم باسم ''فجر الأموات'' (1979) معللاً حدوث الظاهرة هذه
المرّة بأنه لم يعد في الجحيم متسع لمزيد من البشر الخطاة. ؟ ؟ ؟ منذ أن
تمرّد الشيطان على المشيئة الإلهية، وأعلن عصيانه، واتخذ من الإنسان هدفاً
أساسياً يسعى إلى إفساده وتلويثه وتدميره روحياً، صار الشيطان مصدر الرعب
الأعظم للإنسان، الذي يشعر بحضوره ماثلاً في كل لحظة وفي كل مكان، فهو الذي
يجعله
-
بحسب ادعاءاته - يرتكب الآثام ويتفوّه بما لا يليق ويزيّن
له المعاصي. صار الذريعة التي يلجأ إليها الفرد كلما أخطأ أو أذنب محمّلاً
إياه المسؤولية. الحضور الشيطاني تجسد على الشاشة في بدايات السينما. فيلم
''طالب من براغ'' (1913) يحكي قصة طالب يحتل الشيطان صورته المنعكسة في
المرآة وروحه أيضاً. هذه القصة قُدمت على الشاشة عدة مرات. كذلك أسطورة
فاوست التي صُوّرت سينمائياً ثمان مرات في مرحلة السينما الصامتة، كما
صُوّرت مرات عديدة منذ أن نطقت السينما. وفاوست، بحسب الحكاية المرعبة التي
ظهرت في القرن السادس عشر، هو المنجّم الذي باع روحه إلى الشيطان لقاء
امتلاك قوى سحرية. سينمائياً بدأ اهتمام الشيطان بالتحكم في العالم من خلال
ولادة ابن له من أم بشرية، وذلك في فيلم رومان بولانسكي ''طفل روزماري''
(1968). الفيلم لم يلجأ إلى التصريح بالحضور الشيطاني أو إلى العنف، بل أن
قوته تكمن في واقعيته وطبيعيته والطاقة الإيحائية حيث أننا لا نرى طفل
الشيطان إنما نشعر بوجوده. في العام 1972 قدّم وليام فريدكن ''طارد الأرواح
الشريرة'' الذي لقي إقبالاً هائلاً، وكان بداية لموجة من أفلام الاستحواذ
الشيطاني، حيث يسكن الشيطان جسد ضحيته ويجعلها تمارس أفعالاً شنيعة. كان
فيلماً مرعباً وعنيفاً وصادماً، يتلاعب بأكثر المخاوف بدائية عند الجمهور:
الاعتقاد بهشاشة الهوية الذاتية، وإمكانية فقدانها بسهولة، والإحساس بوجود
الشيطان أو القوى اللاعقلانية داخل الذات البشرية. التوجه الديني، في هذه
الأفلام، صريح ومباشر، فتخليص النفس والجسد لا يتم إلا من خلال الإيمان.
العلم يعلن عن عجزه أمام ظاهرة غير طبيعية، خفية، خارقة، ويشجّع اللجوء إلى
الطقوس الدينية من أجل إنقاذ النفس. بهذا تتم إعادة تثبيت وضع الكنيسة
والدولة والعائلة كقوى ثابتة، مطلقة، أزلية، تمثّل الخير. في الأفلام
التالية لم يعد الشيطاني يسكن الجسد البشري فحسب، بل الأشياء أيضاً.. مثل
السيارة والمصعد وغيرهما. وإذا كانت هذه الأفلام تظهر انتصار قوى الخير بعد
تجربة قاسية ومعاناة مريرة في جحيم الاستحواذ الشيطاني، وإنقاذ النفس
البشرية بفضل الإيمان والقوى الروحية، فإن أفلاماً أخرى مثل
|