لا أحد يشك في أصالة وفرادة المخرج اليوناني ثيو
أنجيلوبولوس، وقدرته الفذّة في تجديد الشكل السينمائي، لكن ليس هناك فنان
يعمل كليا خارج النماذج والمعايير والخيارات التي يوفرها الوسط الذي يتحرك
فيه ويعمل ضمنه. في أفلام أنجيلوبولوس نجد تمازج نزعات هامة كانت تعمل في
السينما الأوروبية عبر السنوات الأربعين الماضية، إضافة إلى تقنيات
واتجاهات أخرى.
إن إحساسه الدقيق بالتكوين البصري متأثر بعمق بالتقليد
البيزنطي في رسم الأيقونات، بقدر تأثره بمنجزات السينما الحداثية:
أنتونيوني تحديداً.. خصوصاً في ما يتصل بإظهار وفهم الحيّز والزمن والشخصية. كما يشير إلى استلهامه من سينما
الألماني مورنو، اليابانيين كينجي ميزوجوشي وياسوجيرو أوزو، الدنمركي كارل
دراير، الأمريكي أورسون ويلز.. وهؤلاء جميعا يميلون إلى اللقطات الطويلة
الأمد، التي هو يفضلها.
أيضا تأثر بالأفلام الاستعراضية الأمريكية التي حققها فنسنت
منيللي وستانلي دونان. كذلك تأثر بسينما الفرنسييْن جان رينوار وروبير
بريسون التي كانت تستكشف "واقعية الصورة" وتؤكد على الصورة المتواصلة بدلا
من المونتاج السريع (المفاجئ) الذي يشظي العالم. كما تأثر بسينما جون فورد
في تركيزه على علاقة الفرد بما يحيط به من مناظر شاسعة غير مأهولة.
إن سينما أنجيلوبولوس قد انطلقت من هذا الإرث الجمالي الغني
والمتعدد، لتعانق منجزات الموجة الجديدة الفرنسية ومفاهيمها، والذي يتضمن
أخذ الوسط السينمائي بجدية، إضافة إلى حرية التجريب باللغة السينمائية،
واستخدام الفيلم للتعبير عن رؤية ذاتية، وصياغة وجهات نظر سياسية-
اجتماعية.
الدراما، حسب المفهوم المسرحي الغربي، بالكاد توجد في
أفلامه، وفي بعض المشاهد لا توجد على الإطلاق.. لا كلام، لا حركة (أو
القليل من الحركة). مثل هذه المشاهد السكونية، الصامتة، تحرّك المخيلة،
وتدفعنا إلى التأمل والسبر والتأويل.
في أفلام أنجيلوبولوس، أغلب المشاهد التي تحتوي على عنف،
وحتى ما يعتبر دراميا أو هاما للسرد، تحدث خارج الشاشة دون أن يراها
المتفرج. على سبيل المثال، في فيلم "إعادة بناء" تقع الجريمة داخل البيت
فيما الكاميرا مركزة على خارج البيت/ اغتيال السجين السياسي في فيلم "أيام
36" يحدث خارج الشاشة فيما الكاميرا مركزة على نافذة الزنزانة حيث يقع
الاغتيال/ حادثة الاغتصاب داخل الشاحنة، في فيلم "منظر في السديم"، غير
مرئية وغير مسموعة، إنما نرى النتيجة فحسب حيث تتحرك الكاميرا نحو الفتاة
الصغيرة التي تحدّق في يدها الملطخة بالدم.
مثل هذه الأحداث نراها، نحن المتفرجون، بمخيلتنا فقط، وفي
هذا يتأثر أنجيلوبولوس بالتراجيديا الإغريقية التي تُبقي الكثير من العنف
خارج خشبة المسرح فلا تظهره بل تتكلم عنه، وذلك حتى يتمكن الجمهور من
التركيز على النتائج وليس الفعل أو الحدث، والشيء نفسه ينطبق على المسرح
الصيني والياباني. هكذا يتيح أنجيلوبولوس للمتفرج مساحة لتأمل معنى ذلك
الفعل العنيف ونتائجه.
ثمة شد أو توتر غير عادي يتولد بين ما هو حاضر في الصور
المديدة التي نشاهدها وما هو غائب عن الشاشة. هذه القدرة على ترك الأشياء
خارج الشاشة تجعل أفلامه مكشوفة ومباحة لنا لنكملها في أذهاننا. إنها تغذّي
مخيلة المتفرج وتنشّط ذهنه وترغمه أن يشارك بفعالية في عملية قراءة الصور
التي تفيض أمامه.. بعكس الكثير من الأفلام التقليدية التي تقدم لنا ما يكفي
من المعلومات عن الشخصيات والأحداث بحيث نشعر أننا نعرف كل شيء قبل نهاية
الفيلم.
لا يخفي أنجيلوبولوس تأثره العميق، في تكويناته البصرية،
بالثقافة البيزنطية وتقاليدها الفنية في تصميم الأيقونات. وهو يقول عن
فيلمه "الإسكندر الأكبر" بأنه عمل بيزنطي أو أرثوذكسي يوناني لأنه مبني على
عدة عناصر من الطقوس الدينية الأرثوذكسية، وتضم الموسيقى والشعائر والتطهير
من خلال الدم، وبالطبع دور الأيقونة في كل هذا.
لليونان القديمة تأثير بعيد على الأجيال المعاصرة، بعكس
المرحلة البيزنطية ذات التأثير الأقوى، نظراً لأن هذه الإمبراطورية، التي
دامت أطول من أية إمبراطورية في التاريخ، كانت شبكة متعددة القوميات
ومتعددة الأعراف. وما جعل هذه الإمبراطورية متماسكة لزمن طويل هو قوة اللغة
الإغريقية، والدين الأرثوذكسي، والعائلة النووية. ولأربعة قرون تقريبا من
الحكم العثماني الذي أعقب سقوط القسطنطينية، عاصمة بيزنطة، في العام 1453،
ظلت هذه المقومات الثلاثة - اللغة، العائلة، الدين - تغذّي اليونانيين
بالمعنى أو الغاية، والمركز والهوية.
مع أن أفلام أنجيلوبولوس ليست أرثوذكسية أو دينية بأي معنى
اصطلاحي، إلا أنه تأثر إلى حد كبير بالتقاليد الأرثوذكسية في الرسم
الأيقوني، وهذا ما نجده في اللحظات "السحرية" والظواهر غير المفسرة.
إننا نجد تماثلاً بين التكوينات البصرية السينمائية في
أفلام أنجيلوبولوس وتلك التكوينات التشكيلية التي يتميّز بها الفن
البيزنطي، حيث ينعدم التوكيد على الدرامي والحركي، وعلى الخلفية، لإلقاء
ضوء أقوى على الأشكال المعروضة، المرئية من الأمام. وهذا ما يفعله
أنجيلوبولوس عندما يعزل شخصياته في المكان.
استخدام أنجيلوبولوس للقطات (Takes)
الطويلة، التي غالبا ما تستغرق عشر دقائق تقريبا، يوحى بالعلاقة
"المتواصلة" بين الفن البيزنطي والرائي: بوسع المرء أن يقف ويحدّق في
الأيقونة بقدر ما يرغب. بهذا المعنى، الرائي هو الذي يتحكّم في المدّة التي
تستغرقها تجربة المشاهدة. بينما المتفرج في السينما محتجز في التدفق
المتطرف للصور.
انعدام المونتاج الكلاسيكي وإيقاع السرد التقليدي، في أعمال
أنجيلوبولوس، يعني أن أفلامه هي فريدة في منح الجمهور وقتاً كافيا للتفحص
والمراقبة داخل كل مشهد بقدر ما يرغب. إن انعدام الديناميكية السردية يفضي
إلى تأسيس علاقة أكثر شخصية وتأملية بين الفيلم والمتفرج، تماما مثل تلك
العلاقة بين الرائي والأيقونات في الموقع الأرثوذكسي.
الشعر كان عشق أنجيلوبولوس الأول. كان مفتونا، بوجه خاص،
بأعمال الشاعر اليوناني، الحائز على جائزة نوبل سنة 1963، جورج سيفيريس
(1900- 1971)، وأعمال ت. س. إليوت. أما الشاعر الذي لعب دورا أعظم في
مسيرته فهو هوميروس. وهوميروس، بالنسبة لليونانيين، هو إنجيلهم وموسوعتهم..
هو ثقافتهم.
إن بؤرة سينما أنجيلوبولوس توازي بؤرة شعر إليوت وسيفيريس
في تصوير تفسخ القرن العشرين حيث المعنى والإيمان والفردانية والثقافة تبدو
متشظية، مستنزفة، منبوذة، وغير مترابطة. لكن هؤلاء الشعراء هم أيضا خالقون،
ولديهم نزوع إلى التأمل.
ومثلما يقدم سيفيريس في أشعاره رحلات أوديسية لكن تدور، على
نحو متزامن، في أزمنة حديثة وفي واقع كوني، ميثولوجي وسرمدي، كذلك أفلام
أنجيلوبولوس.. الذي يحب أن يستشهد أو يقتبس، في أفلامه، أبياتاً من قصائد
سيفيريس. وكذلك من إليوت.
مع مثل هذا التاريخ الطويل والمتنوع، التراث المتنوع
والمتعدد الأشكال من القصة والأغنية والدراما والموسيقى والشعر والعمارة
والدين.. كيف يمكن للمرء أن يستفيد من ذلك الموروث ويشعر به؟
المرء لا يحتاج أن يدرس علاقة هتشكوك بالثقافة البريطانية
لكي يفهم أفلامه التي حققها في أمريكا، أو يدرس جذور جون فورد الأيرلندية
ليقدّر أفلامه. لكن بعض المخرجين والفنانين والكتّاب ينبغي فهمهم في سياق
أو بيئة ثقافتهم من أجل تقدير أعمالهم على مستوى أعمق. إذ من الصعب فهم
سوريالية بونويل دون الوعي بثقافة بلدته الإسبانية ونشأته الكاثوليكية.كذلك
لا يمكن استيعاب دعابات وودي ألين دون فهم الثقافة والدعابة اليهودية في
نيويورك وخلفيته الثقافية. كذلك لا يمكن استيعاب أفلام أنجيلوبولوس إلا
بربطها بالثقافة اليونانية، ومن أجل تقدير منجزه الإبداعي لابد من استنطاق
الطرائق التي بها عكس ثقافات بلده القديمة: الهيلينية (الإغريقية)،
البيزنطية، الاحتلال التركي، إضافة إلى الثقافات الشعبية المعاصرة.
في بداياته، اعتاد أنجيلوبولوس أن يتحدث عن ولعه بـ
"التغريب البريشتي". من خلال اللقطات وحركات الكاميرا، كان يسعى –خصوصا في
أعماله المبكّرة - إلى خلق علاقة جدلية بين عناصر مختلفة في اللقطة. في بعض
أفلامه الأولى كان يجعل الشخصيات تخاطب الكاميرا/ الجمهور على نحو مباشر في
مونولوجات طويلة، وهي التقنية التي اعتمدها بريشت في خلق حالة التغريب،
وبهذه الطريقة كان أنجيلوبولوس يبعدنا عن القصة وفي الوقت ذاته يتيح لنا أن
نحصل على رؤية أخرى لهذه الشخصيات.
التأثير "البريشتي"، الذي كان جزءا متمماً لرؤيته الشخصية
منذ إقامته في باريس، كان واضحا وصريحا في أفلامه. في عمله مع الممثلين كان
يفرض مسافة بينهم والأدوار التي يؤدونها، وذلك وفق التقليد البريشتي، وهي
عملية ليست سهلة بالنسبة للممثلين.
لكن في مرحلة تالية، يبدأ هذا التأثير في التلاشي. إننا لا
نختبر شيئا قريبا مما يمكن تسميته بتأثير "التغريب" بالمعنى البريشتي. على
العكس تماما، إن دمج الواقعي بالمسرحي في أفلامه غالبا ما يقودنا نحو اتصال
عاطفي أعمق وأكمل مع الفيلم.. هذا الاتصال الذي يعانق عقولنا المفكرة أيضا.
(للحديث بقية)
|